مشهد من فيلم “الحذاء الأحمر” (موقع الفيلم)​​​​​

كان الفارق كبيراً بين العروض الأولى لفيلم””الحذاء الأحمر  البريطاني الذي حققه المخرجان مايكل باول وإميريك برسبورغر في 1948 وعرض للمرة الأولى في ذلك العام، وعروضه الجديدة التي أتت كتتويج لترميمه في عام 2010 والتي كان منطلقها هذه المرة في فرنسا. ففي المرة الأولى مر الفيلم من دون أن يثير انتباه أحد وظل فيلم باول الكبير الآخر “توم البصاص” يعتبر قمة سينما هذا المخرج الصموت الذي على رغم الشهرة الواسعة التي حققها ذلك الفيلم، ظل غير قادر على الخروج تماماً من الظل.

والواقع أن الذي حدث بين عرضي “الحذاء الأحمر” هو أن  وبريان دي بالما مرا من هنا: الأول تبنى الفيلم منذ أطلعته عليه مؤلفة أفلامه تيلما شوماخر، أرملة المخرج باول بعد رحيله عام 1990، وكانت النتيجة أنه سعى إلى ترميمه بعد أن تحدث عنه طويلاً، بل كتب عنه أكثر من نص، والثاني اقتبس مشاهد منه أساسية ولا سيما في فيلمه “شبح الأوبرا” معلناً أنه إنما فعل ذلك لأن “الحذاء الأحمر” بالنسبة إليه “أعظم فيلم في التاريخ عن رقص الباليه الذي يعتبر أرقى الفنون وأكثرها جمالاً”. ولم يكن سكورسيزي الوحيد الذي اهتم بصنع نسخة مرممة جديدة أتت أقرب إلى الكمال من هذا الفيلم، كذلك فإن دي بالما لم يكن بدوره الوحيد الذي بوأ هذا الفيلم تلك المكانة المتقدمة.

واحد من الأفلام الكبرى

فمباشرة قبل دخول دي بالما على الخط كان موقع “آلو سينما” المعتمد عالمياً قد صنف “الحذاء الأحمر” بين أفضل 10 أفلام في تاريخ السينما إلى جانب “الديكتاتور”و”أيام السماء” لتيرنس مالك، و”الجنرال” لباستر كيتون” و”الثور الهائج” لسكورسيزي و”باري لندون” لستانلي كوبريك و”ليلة الصياد” لتشارلز موتون، وغيرها من أمهات الأفلام في تاريخ هذا الفن. غير أن باول، لم يكن آنذاك حياً ليشهد تلك الانبعاثة الجديدة لفيلمه. وطبعاً لم يكن حياً بعد ذلك ليستمع إلى المخرج دارين آرونفسكي وهو يهدي نجاح فيلمه “البجعة السوداء” الذي اعتبر إلى جانب “الحذاء الأحمر” أعظم فيلم باليه هو الآخر في تاريخ السينما، إلى مايكل باول نفسه وإلى “فيلمه الكبير الذي ألهمني بشكل أساس في صنع فيلمي” كما أكد.

ومهما يكن من أمر فإن أهل جوائز الأكاديمية كانوا تنبهوا إلى بعض ما في “الحذاء الأحمر” من مزايا منذ العام التالي لظهوره، أي خلال توزيعهم أوسكارات عام 1949 فمنحوه أوسكار أفضل موسيقى وأوسكار أفضل تنفيذ فني لفيلم بالألوان بعد أن كانوا رشحوه لأوسكارات أخرى، منها أفضل إخراج وأفضل سيناريو بل حتى أفضل فيلم، لكن المشكلة أن الفيلم عاد وغاب بعد تلك النجاحات الأولى ليوقظه سكورسيزي ودي بالما، من سباته بفيلم “البجعة السوداء”.

عن قصة للصغار

طبعاً لا يمكن القول هنا إن التشابه كبير بين فيلمي الباليه هذين، والذي ينطلق أولهما “الحذاء الأحمر” من قصة جن من أعمال الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، فيما ينطلق “البجعة السوداء” من باليه “بحيرة البجع” لتشايكوفسكي، لكن ثمة سحراً يجمع بينهما إضافة إلى النهاية القاتلة لبطلة كل منهما وتشارك هاتين في كونهما مبتدئتين فائقتي الموهبة تتاح لكل منهما فرصة التألق منذ اكتشاف مواهبها، ليصبح نجاحها مأساة كبيرة في حياتها.

وثمة إلى هذا ذلك البعد الدرامي الذي يصل في نهاية الأمر إلى حدود الفجيعة ويتحكم بالمصائر، لكن أكثر من هذا وذاك ثمة التصوير البديع لعالم الباليه من الداخل. ولا نعني بالداخل هنا الكواليس وحدها، بل داخل الروح إلى جانب ما يحدث في الكواليس. وهنا من دون أن نتوغل في المقارنة، قد يكون من المفيد أن نتوقف عند “الحذاء الأحمر” بعض الشيء للحديث عنه كي لا يبدو ما نقول أشبه بكلمات متقاطعة. فعم يحكي هذا الفيلم بعد كل شيء؟

 غرام في عالم لا وقت لديه للحب

عن حكاية مزدوجة هي حكاية بطلي الفيلم الشابين، وأهمهما بالطبع الراقصة الحسناء الطموحة فيكي بايج التي “يكتشفها” مدير فرقة للباليه في لندن والفرقة على وشك أن تنطلق في العمل على باليه عنوانه هو نفس عنوان الفيلم ومقتبس من الحكاية التي أشرنا إليها. وفيكي على أية حال مدعومة من خالتها الليدي نيستون المعروفة بمكانتها في المجتمع ورعايتها للفنون، ومن ثم لا يمكن القول إن الراقصة الصبية تعاني صعوبة في الوصول إلى ما تتطلع إليه.

وفي المقابل يحدث لها منذ بداية الانطلاقة أن تلتقي بموسيقي شاب كان قد اتهم كاتب موسيقى الباليه المزمع تقديمه بسرقة اللحن الرئيس للباليه الجديد من قطعة كان قد لحنها هو وعزفها أمام الأستاذ كي يبدي هذا الأخير رأيه فيها. ومن هنا وخوفاً من الفضيحة التي قد يثيرها الموسيقي الشاب يتعاقد المدير معه ليتولى قيادة الأوركسترا، لكن الذي يحدث لهذا الشاب الطموح بدوره، جوليان، هو أنه يلتقي فيكي ويقع في غرامها، مما يوقظ ضميره ضد الخداع الذي كان قد بدأ يغوص فيه عبر الصفقة التي قبل بها.

نهاية مدمرة

لكن مدير الفرقة ويدعى ليرمنتوف – على اسم الشاعر الروسي الكبير صاحب رواية “بطل من هذا الزمان” – لم يستسغ كثيراً تلك العلاقة الغرامية التي سيكون من شأنها في رأيه أن تدمر مسار فيكي المهني عند بداياته. وهكذا ينتهي الأمر بهذه الأخيرة إلى أن تعيش وهي تخطو خطواتها الأولى في عالم هذا الفن، صراعاً عنيفاً بين عاطفتها تجاه جوليان وتمسكها بالفن الذي شرعت في وجهها أبوابه لكن ها هي ذي مطالبة بأن تدفع الثمن.

وفي النهاية وحين تتراكم الضغوط لا تجد فيكي أمامها من طريق للخلاص سوى بالانتحار، إذ تجد نفسها عاجزة عن الحسم واتخاذ أي قرار. والحال أن هذا الخط السردي للحكاية ليس هو العنصر المهم في هذا الفيلم، ولا حتى كون موضوع الباليه الذي تدور الحكاية من حوله مقتبساً من أندرسن. المهم هنا هو تلك الأجواء التي خلقها باول وشريكه واضعين السينما وتقنياتها التي كانت قد بدأت تعيش تطورات هائلة، في خدمة فن له حياته الخاصة وضروب تعبيره. ومع ذلك بدا التلاؤم بين الفنين مدهشاً في انسيابيته وقادراً على جعل المتفرجين بالكاد يلتقطون أنفاسهم وهم يعيشون لساعتين ونيف هي زمن الفيلم، تحت إيقاع ضاغط عرف هنا كيف يستعير من الكوميديات الموسيقية الهوليوودية ديناميتها الإيقاعية من دون أن ينسى للحظة أنه باليه في نهاية الأمر ولا بد له من أن يتماشى مع تلك الغرائبية التي تطبع الحكاية الأصلية.

وهذا بالذات ما أراد بريان دي بالما أن يقوله في حديثه عن الفيلم معتبراً إياه العنصر الأساس الذي دفعه إلى إعطاء الفيلم مكانة مميزة في تاريخ السينما. ويقيناً أن ذلك العنصر الغرائبي كان من ناحية ما العامل الذي حرك مخيلة أرونفسكي حين اشتغل ومن منطلق مشابه وإنما بموضوع مختلف، على فيلمه “البجعة السوداء” الذي حين عرض قبل سنوات قليلة ونال من جوائز الأوسكار والنجاح الجماهيري ما لم يكن متوقعاً، قدم مساهمة جديدة وإضافية في إعادة فيلم باول/بريسبرغر إلى الواجهة، وهو ما حياه يومها مارتن سكورسيزي بحرارة.

تأثيرات جانبية

وفي النهاية لا يمكننا أن نختم كلامنا هنا عن “الحذاء الأحمر” من دون أن نذكر بعضاً من تأثيرات أخرى كثيرة كانت له، أو فقط لعنوانه الذي كثيراً ما بدا جاذباً ووسيلة لا بأس بها لإضفاء مسحة فنية نخبوية في نهاية المطاف على أي عمل يلتحق ولو شكلياً به. ومن هنا ستقول المغنية/الملحنة كيث بوش، على سبيل المثال، إن جزءاً من نجاح ألبومها الغنائي الشهير “الحذاء الأحمر 3” يعود إلى اختيارها هذا العنوان له. وهو شبيه بما فعلته مغنية وراقصة الروك والتكنو الكاميرونية نيكو حين أطلقت على فرقتها الموسيقية عند تشكيلها اسم “نيكو والأحذية الحمراء” معربة بمجرد اختيارها هذا الاسم للفرقة، عن شغف بفن الباليه الذي يرمز إليه هذا الفيلم، وستقول لاحقاً إن الاسم قد عرف كيف يصل إلى الجمهور رابطاً عملها وعمل فرقتها “بالذكرى الطيبة لهذا الفيلم الكبير”.