ظهر الوشم في المجتمعات الطوطمية المؤلفة من قبائل وكان لكل منها طوطمه الذي يستحق أن ينقش على الجلد ويختلط بالدم. غير أنه لم يختف باختفائها، بل تسلل عبر فجوات الزمن متنكراً في أدوار مختلفة. فمرة يظهر في هيئة اختصاصي تجميل، ومرة في هيئة طبيب أو جالب للحظ أو طارد للأرواح الشريرة. اجترأ الإنسان أيضاً على وشم جلده كما لو كان قطعة من القماش، مشدودة على حامل، ليعبر عن مراحل مهمة كالزواج والحداد والتقدم في السن في سياقات ثقافية عدة، واستخدم كرمز للقوة والشجاعة وتعهدات الحب. في جانب آخر تم وشم المعتقلين والمنبوذين والعبيد بكلمات ورسوم معينة، مثلما فعل النازيون أثناء الهولوكوست، وكإشارة إلى نوع السلوك الإجرامي في الولايات المتحدة، فكان يوشم القاتل بعلامة على شكل دمعة تجسيداً لفداحة الفقد ومرارته. وكان من الشائع تصدير العبيد المدموغة جلودهم بعبارة “الضريبة مدفوعة”، وكذلك “أوقفوني، أنا هارب”. أما الرومان فقد توصلوا إلى وضع رسم معين على أيدي جنودهم حتى يتعذر إخفاؤها في حالة الانشقاق أو الفرار، من ثم يسهل تقييد حريتهم، وهو ما يختلف مغزاه عن وصمة قايين، أول قاتل في التاريخ، إذ وضعها الرب “لكي لا يقتله كل من يجده” (سفر التكوين 4: 15).
على رغم إيغال تلك الممارسة في القدم، حتى ليفترض علماء الحفريات أن الأنواع البشرية البدائية، مثل الإنسان المنتصب، كانت تصنع علامات زخرفية أو رمزية أو تواصلية على الأشياء. إلا أنه فن بلا تاريخ، إذ لم يعره الدارسون اهتماماً حقيقياً لرصد كل ما مر به من تطورات. من هنا يكتسب كتاب “الموشومون: قصة الإنسان في 21 وشماً” لمؤرخ الفن مات لودر، فرادته، لا سيما أن مؤلفه في الأساس أحد المفتونين بترقيط جلودهم منذ نعومة أظفاره، وقد كان لجدته وشم على معصمها بخطوط سوداء عنكبوتية سميكة وغير متقنة، وقد استطاع شقيقها الذي اشترى لتوه آلة للوشم أن يقنعها بإمكان محوه وهو ما لم يحدث بالطبع، فظلت طوال عمرها تخفيه تحت الملابس. وربما لهذا ظلت هوايته على مدى حياته جمع الوشوم التي تؤبد الزائل وتجعل العابر مقيماً. كتب يقول “لقد فتنت بالوشم منذ أن كنت طفلاً على أجساد نجوم الروك والمصارعين في الثمانينيات، الوشم هو بمثابة السحر للأطفال – تصميمات على الجلد لا يمكن محوها – وقد تعلقت بها على الفور تقريباً”.
جريمة تحت طبقات التاريخ
يبدأ لودر كتابه بالتفكير في أوجه الاختلاف بين عمل مثل لوحة الموناليزا المعلقة في متحف اللوفر، والصور المرسومة على جلود ملايين البشر، لينبهنا إلى أن الغرض من أي فن هو فهم أنفسنا وفهم الآخرين على نحو أفضل. والوشم كشكل من أشكال صنع الصورة يقربنا بدوره من أنفسنا ومن المجتمع الذي نعيش فيه. وعندما نفكر في الصور التي وشمها الأشخاص على بشرتهم، والظروف المحيطة، نحصل على رؤى فريدة عنهم وعن الثقافات (الفرعية) التي لا يتم تمثيلها بشكل جيد في كثير من الأحيان، في أماكن مثل المتاحف والأرشيفات. مع أن هذا اللون من الفن لم يقتصر على العرافين والهواة، بل مارسه كثير من التشكيلين منهم الرسام لوسيان فرويد الذي اكتسب هذه المهارة خلال فترة وجوده في البحرية. وفي عام 2002 رسم طيور السنونو على ظهر عارضة الأزياء الشهيرة كيت موس رمزاً لصداقتهما.
فرويد هو أحد أبطال كتاب لودر الذي يجمع 21 بطلاً يتشاركون في احتمال وخز الإبر، وخروج الدم والجسد الموشوم إلى الأبد. يستهلها لودر بقصة جثة عاشت قبل 5500 عام، تعود لأوتزي “رجل الجليد” الذي عثر عليه متسلقو جبال الألب الإيطالية على الحدود مع النمسا عام 1991. كان أوتزي البالغ من العمر 45 سنة قد أصيب بسهم في ظهره وترك ليموت على جبل تعصف به الرياح، ولولا ذوبان الثلج نتيجة تغير المناخ لظل في طبقة الثلج من دون أن يخبرنا قصة النقوش المؤلفة من 61 وشماً، وزعت في خطوط متوازية على 15 مكاناً من جسده، بما في ذلك أسفل الظهر وخلف الركبة والكاحل وحول معصم اليد اليسرى. يرى مات أن أوتزي هو “أقدم رجل أوروبي محنط، وأقدم جسم بشري موشوم لم يتم التعرف إليه رسمياً بعد”، لكن تلك الوشوم، بحسب فحصه، تحمل دلالات غامضة على رغم أنها رسمت لأسباب علاجية نظراً إلى أن أوتزيكان يعاني التهاب المفاصل التنكسية. فهل قام هو بوشم نفسه ليجعل من الذات عملية إبداعية، اللوحة والفنان في الآن ذاته؟ لا سيما أن ذراعه اليمنى صفحة بيضاء لم يخط عليها. يتخيله لودر جالساً بجوار النار منذ أكثر من 5 آلاف من الأعوام، يوخز جلده بالإبر ويفرك جروحه بالسناج.
وبالقدر نفسه من التشويق يستقرئ هوية أحدث مومياء تم العثور عليها لامرأة مصرية مقطوعة الرأس ماتت قبل 3 آلاف عام، من خلال وشومها الهيروغليفية وصور لأبقار وكوبرا، موزعة على جسدها، وهي تنتمي إلى حتحور، الإلهة الأم الراعية. يفطن لودر إلى أنها مؤدية في المعبد، توجه روح الإلهة بطقوسها السحرية ونقوشها الدالة.
رحلة الملوك والصعاليك
يتضمن الكتاب حكايات من مصر الفرعونية وأرض الرومان وعصر التيودور. بعضها نعرفها بالفعل، لكن السياق الجديد الذي وضعت فيه يجعلها مثيرة للاهتمام. أما الجزء الأكبر من الكتاب فقد خرج لتوه من تحت طبقات الملابس، وتراكمات التاريخ، ومن أسرار الأميرات السيبيريات والجنرالات الصينيين والشخصيات الاجتماعية الفيكتورية، لكن أفضل القصص بحسب رأي جامعها هي قصة جين وماري، وهما امرأتان قبض عليهما بتهمة السرقة في لندن الديكنزية، قبل إرسالهما إلى أستراليا. كانتا من هواة الرسم، وما إن رأى القاضي أوشامهما الغامضة إلا وافترض أنهما جزء من عصابة مخيفة تسمى الـ40 حرامياً. ومع ذلك اتضح أن العصابة من بنات الخيال الشعبي وليس لها وجود حقيقي، واتضح أيضاً أن وجود وشم على أجسام الناس لا يعني أنهم جميعاً مجرمون!
لم يفرق الوشم عبر رحلته بين الزعماء والملوك واللصوص، فإذا ما اتخذت العصابات منه وسيلة لتمييز أنفسها عن الجميع، أو لنفي الفردية بين أعضائها والذوبان في كيان واحد، فما السر في رسم نابليون وبطرس الأكبر وإدوارد السابع وكندي وتشرشل، وألبرت أمير ويلز، أشكالاً على بشرتهم؟
بدأ لودر رحلته قبل 5500 عام، وانتهي بنجم كرة السلة دينيس رودمان في عصرنا الحالي، ونستقرئ من خلال وشومه وملابسه تبدل الخزي إلى فخر في تجربة التحول الجنسي، التي جعلته “رمزاً ثقافياً متجاوزاً وبذيئاً”. وهي القضية التي أولاها اهتمامه أيضاً في قصة جو كارستيرز. يقول لودر: “أردت أن أفعل شيئاً في شأن المتحولين جنسياً. ووجدتها مثالاً جيداً”. كذلك وجد في قصة مادلين التمان، الطفلة الوقحة التي هربت، وقبض عليها تشرب الروم في حانة، وجسدها مغطى بالرسوم، مثالاً لمعاملة الفتيات في مطلع القرن الـ20، وكيف دخل الوشم ضمن منظومة الذعر الأخلاقي.
لكن لودر لا يقدم تاريخاً خطياً لموضوعه، كما لم يغره الأمر بتتبعه “في كل سياق ثقافي ممكن”. إنه يفضل القفز عشوائياً بين قصصه المدروسة بعناية كطفل مرح، متتبعاً فقط أفكاره ورؤاه عن قضايا واهتمامات متوازية، كالاستعمار والإجرام والنظام البريدي الفارسي، وتجارة لحوم البقر الأرجنتينية في الحرب الباردة، وقانون حقوق النشر المعاصر ورعاية الأطفال في أوائل القرن الـ20 وغيرها وغيرها من الروابط المعقدة. ربما لم يخطر بباله أن يقوده الوشم إلى تلك المناطق المجهولة، لكن الطريق أمامه ظل يتقاطع كما تتقاطع الطرق في الحياة مع هموم الجماعة، لتتشكل في نهاية المطاف من تلك الأجساد الموشومة قصة البشرية على كوكب الأرض.