من مهرجان "لحن الشعوب" في السليمانية.

من مهرجان “لحن الشعوب” في السليمانية.
يشكو المثقفون والفنانون الأكراد من غياب الثقافة والفنون الكردية عن المهرجانات الثقافية والمعرفية والفنية في العراق، وباقي دول المنطقة، في وقت تحضر الثقافة والفنون العربية ومنتجوها حضوراً مكثفاً في المهرجانات والمناسبات في إقليم كردستان العراق.
مع بداية فصل الخريف من كل عام، تنطلق ثلاثة مهرجانات ثقافية وفنية في مدن الإقليم، تُقدم كل واحدة منها مثالاً على الاحتفاء والاندماج والتفاعل من مواطني كردستان والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والثقافي بالفضاء الثقافي العربي، من خلال تخصيص جزء واسع من نشاطات تلك المهرجانات للثقافة العربية، كدعوة ضيوف عرب من داخل العراق وبلدان أخرى، إحياء جلسات حوار ونقاشات ثقافية وفعاليات فنية باللغة العربية، واستقطاب زائرين عرب من مختلف مناطق البلاد.
 
مهرجانات متتالية تحتفي بالثقافة العربية
مهرجان “لحن الشعوب” الفني الموسيقي الذي أقيم في أوائل شهر أيلول (سبتمبر) المنصرم على مسرح “المدرج الروماني” في الحديقة العامة في مدينة السليمانية كان تعبيراً عن ذلك. فقرابة نصف الفنانين الذين أحيوا حفلات المهرجان، ونسبة مماثلة من اللوحات الراقصة التعبيرية والندوات الفكرية والموسيقية ومشاريع إحياء التراث الموسيقي كانت خاصة بالموسيقى العربية.
المهرجان المُصنف “حدثاً ثقافياً دولياً”، بسبب دوره في إعادة إحياء التراث الموسيقي المشترك لسكان منطقة غرب آسيا، ولمضامينه المعرفية، إذ يتدفق عليه أكاديميون وفنانون من مختلف دول العالم، كرّم هذا العام العشرات من الفنانين العراقيين والعرب، وشهدت حفلات الغناء العربي حضوراً لآلاف المتابعين الأكراد، من سكان مدينة السليمانية وغيرها من مدن كردستان.
بعده بأيام قليلة، كان “مهرجان كلاويز للثقافة” يُعقد أيضاً في المدينة نفسها، وقد احتضن أكثر من عشر جلسات حوارية باللغة العربية، في مواضيع خاصة بالشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والفكر المعاصر، فيما كانت الترجمة الفورية إلى اللغة العربية متوافرة في مختلف الجلسات الأخرى، وقرابة ثلث المدعوين هم من الكتاب والنُقاد والمثقفين وناشري الكتب في البلدان العربية. وكانت مسألة “التعايش والتفاعل بين الثقافتين العربية والكردية” حاضرة وحيوية في مختلف النقاشات أثناء أيام المهرجان.
تسلم العديد من المثقفين العراقيين جوائز المهرجان، وطُرحت مبادرة بأن تكون للمهرجان نسخة مطابقة في العاصمة بغداد، بإشراف ودعم من الجهات الراعية نفسها.
الأمر نفسه حدث أثناء “مهرجان دهوك الثقافي”، الذي عُقد في أوائل الشهر الجاري، وثمة ما يطابقه في المهرجان المسرحي السنوي في العاصمة أربيل، ومعارض الكتب والأسواق الثقافية والمكتبات العامة في الإقليم.
حضور “عراقي عربي” لافت بعد 2003
الفنان الكردي جواد مردي شرح في حديث إلى “النهار العربي” الأسباب والدوافع التقليدية التي تجعل من الثقافة العربية حاضرة بكثافة في المناسبات الثقافية الكردية على الدوام، ويقول: “ليس فقط لأن أكراد العراق يعيشون في دولة ذات أغلبية سكانية وهوية سياسية عربية، ولا حتى لعمق الثقافة واللغة العربيتين في الوجدان الشعبي الكردي بسبب الدين، وإن كانت تلك العوامل مهمة للغاية، لكن الأساس هو مستوى التداخل الديموغرافي والثقافي اليومي بين سكان الإقليم وباقي مناطق العراق. فمنذ عام 2003، وبعد النهضة العمرانية والاقتصادية والثقافية في الإقليم، هاجرت طبقات مدينية وثقافية ومعرفية عراقية عربية متنوعة كثيرة إلى إقليم كردستان، واستقر الكثير منها نهائياً هنا، حتى أن مدناً مثل شقلاوة شمال العاصمة أربيل، صار أكثر من نصف سكانها من العرب. لأجل ذلك، فإن الثقافة والفنون العربية بالنسبة إلى الإقليم ليست بشيء خارجي أو غريب. مع التنويه بإيجابية القائمين على هذه المناسبات وابتعادهم من أي نزعة قومية حادة، وهو فقط ما يليق بالثقافة”.
أما عن أسباب عدم حدوث ما هو مماثل في المناسبات الثقافية والفنية العربية في العراق، فإن الناقد الأدبي الكردي هفمد مامو يشرح ذلك في حديث إلى “النهار العربي” بقوله: “مع الأسف ثمة شعور عراقي عام بعدم الحاجة للتعاطي مع الثقافة الكردية، فحتى الأكاديميات ومؤسسات الدراسات والأبحاث العلمية، نادراً ما تتعرض لمواضيع ومساحات ثقافية كردية، إذ ثمة شعور عام يفترض أن أبناء “الأقلية القومية” الكردية من المفترض أن يندمجوا، وغالباً يتحللوا، ضمن الفضاء الثقافي الأوسع. يزيد من وطأة ذلك، أن المؤسسات الثقافية والمعرفية والجامعية الحكومية، والقائمين عليها، بأغلبيتهم المطلقة، غير معتدين بمسائل التنوع الثقافي والفني والمعرفي، ولا يملكون نوازع أيديولوجية وثقافية تحرضهم على تنمية ذلك عبر مؤسساتهم ومخصصاتهم المالية. فالتجربة العراقية خلال العقدين الماضيين أثبتت أن كثيراً من العاملين في القطاع الثقافي الحكومي مجرد موظفين بيروقراطيين، والمناصب العليا ضمن وزارة الثقافة، بما في ذلك منصب الوزير، جزء من المحاصصة الحزبية والسياسية والطائفية في البلاد، ومثلهم رؤساء الجامعات والمبادرات الثقافية”.
بسبب اختلاف اللغات الأساسية في مختلف مراحل التعليم، فإن جزءاً كبيراً من الأجيال الجديدة من العراقيين لا يعرفون التحدث بلغة واحدة مشتركة. وهو ما لم يكن قبل عقود، حينما كانت اللغة العربية مفروضة على الطلبة الأكراد في المناطق الكردية، وكان باقي طلبة العراق يتلقون حصصاً رمزية باللغة الكردية.