خرجت رواية “عاصفة على الجزر” للجزائري أحمد منور، المرشحة ضمن اللائحة الطويلة لجائزة بوكر العربية (الجائزة العالمية للرواية العربية)، عن معهود الرواية الجزائرية بتناولها موضوع العلاقة المضطربة بين فرنسا ومستعمراتها القديمة، سيما تلك الواقعة في أفريقيا، التي على الرغم منجلائها عنها تستمرّ في التدخّل في سياستها الداخلية، رغبة في تحصيل ما اعتادت تحصيله إبان استعمارها لها، ليس فقط من طريق محاولة التأثير وابتزاز أنظمة تلك المستعمرات السابقة، بل أيضا السعي لإسقاط الأنظمة التي تصرّ على استقلال قرارها عن الإليزيه من طريق دعم الانقلابات العسكرية وإشعال الحروب الأهلية، مستعينة في ذلك بجهاز استخباراتها والجنود المرتزقة خاصة الفرنسيين منهم، بتوفيرها الحماية السياسية لهم والدعم اللوجستيي بمختلف أشكاله.
في حضرة بوب دونار
من بين تلك المستعمرات القديمة لفرنسا، اختار أحمد منور جزر القُمر فضاء لأحداث روايته الصادرة عن “دار التنوير” الجزائرية، وهي الدولة التي استقلت رسميا عن فرنسا منتصف سبعينات القرن الماضي، ولم تعرف منذ جلاء الاستعمار عنها أي نوع من الاستقرار السياسي والاقتصادي، بل تعدّ من أكثر الدول العربية والأفريقية هشاشة بسبب العدد الهائل من الانقلابات العسكرية المتكررة التي بلغت العشرين انقلابا بين سنتي 1975 و1999 فقط، تولى فيها الحكم رؤساء لم تدم فترة حكم بعضهم إلا بضعة أيام، وهي الانقلابات التي لعب فيها الجنود المرتزقة الدور الأهم باستثناء انقلاب عام 1999 الذي خطّط له ونفذه الجيش القمري بقيادة رئيس الأركان حينئذ العقيد غزالي عثماني، لتدخل هذه الدولة الصغيرة حربا أهلية لم تضع أوزارها إلا بعد ثلاث سنوات، إثر صدور دستور يقر التناوب على الحكم والسلطة، وأعطى نوعا من الاستقرار الداخلي لجزر القمر، قلّص بنحو ملحوظ السطوة الفرنسية عليها.
موسوعية
أظهر أحمد منور في هذه الرواية موسوعية يشاد بها في ما يخص الفسيفساء الاجتماعية لجزر القمر، نمّت عن جهد بحثيٍّ معتبر سمح له بكتابة نص يحفر في وجدان المجتمع، ويقدّم صورة واضحة للأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية لهذه الدولة الواقعة في أقصى القرن الأفريقي، بل إنه عمد في هذا النص إلى الاعتناء بالتفاصيل التي قد يسهو عنها أي كاتب لا ينتمي إلى البيئة التي يكتب عنها، سواء تعلقت هذه التفاصيل بالجغرافيا والتضاريس الشعبية أو تلك المرتبطة بالثقافة والتراث، وهو ما يشكل نقطة قوة مركزية في روايته التي تجري أحداثها في فترة حكم الرئيس القمري علي صويلح، وهو مهندس زراعي تمكّن من بلوغ الحكم والبقاء فيه مدة سنتين ونصف السنة، إثر انقلاب عسكري تحالف فيه مع المرتزق الفرنسي الشهير روبير دونار المعروف باسم بوب دونار، وكان سبق له أن اتخذ أسماء مستعارة أخرى أشهرها جيلبرت بورغود وسعيد مصطفى محجوب الذي استخدمه أول مرة أثناء وجوده في المغرب وقتما كانت لا تزال تحت الحماية الفرنسية، ليصبح لاحقا واحدا من أسمائه المستعارة الكثيرة التي تمكّن الكاتب وأستاذ القانون الفرنسي بيار لونال من جمعها في كتابه “بوب دونار… ملك الثروة” الصادر عام 2001، الذي دحض بشكل كامل صورة “خادم الديموقراطية” التي حاولت المخابرات الفرنسية ترويجها عن دونار، وهي الصورة نفسها التي قدّم الإعلام الفرنسي بها هذا المرتزق أثناء محاكمته عام 2006، معتمدة على السيرة الذاتية التي كتبها دونار بنفسه نهاية ثمانينات القرن الماضي بعنوان “قرصان الجمهورية”، محاكمة انتهت بالحكم عليه خمس سنوات مع وقف التنفيذ، على الرغم من الجرائم التي اقترفها في أفريقيا وراح ضحتها الآلاف من الأبرياء.
لا شكّ أن بوب دونار لعب دورا جوهريا في عدم استقرار عدد كبير من الدول الأفريقية، لكن دوره في جزر القمر كان استثنائيا على نحوٍ أثار اهتمام كبار الكتّاب والباحثين في الغرب، لتتنوع الأعمال التي تناولته بين الرواية والبحث والبيوغرافيا والتحقيق الصحافي، ولعلّ أكثرها استثمارا في شخصه (دون الإشارة إليه مباشرة) كانت رواية “كلاب الحرب” للكاتب البريطاني فريديريك فورسيث التي اقتبسها المخرج جون إرفين إلى السينما في فيلم حمل عنوان الرواية (The Dogs of War) بطولة الممثل الأميركي الشهير كريستوفر والكن.
مع أهمية الدور التاريخي والواقعي لبوب دونار في الواقع القمُريّ السياسي والاجتماعي، فإن أحمد منور اختار أن يسيّر روايته بعيدا من شخصية هذا المرتزق، مفضلا تناول الأجواء والظروف المميزة لتلك الفترة، دون توظيف شخصية بوب دونار إلا في الفصلين الأخيرين من الرواية، كشخصية خلفية لا غير، تماما كما فعل مع شخصية الرئيس علي صويلح من أجل خلق قفلة تعلل نهاية الرواية التي كان ظاهرها منطقيا، لكن جعلها خلوّ العمل من أي تبريرات سردية تمنطق هذه النهاية.
أغلب الظن أن خيار الروائي في تحييد شخصية بوب دونار وغيرها من شخصيات لعبت دورا مباشرا في أحداث انقلاب 1976، مردّه رغبة الكاتب في إخراج الرواية من خانة الروايات السياسية. فبحسب خطه السردي في العمل، وطبيعة الشخصيات والأحداث التي سيّر وفقها روايته، أراد أحمد منور أن يكتب عملا واقعيا يقدّم من خلاله مقاربة اجتماعية للمجتمع القمُري في تلك الفترة، وهي مقاربة نجحت في تقديم الفسيفساء الاجتماعية لهذا المجتمع على نحو يثير الإعجاب، بل إنها منحت الرواية الجزائرية عملا استثنائيا وظف التاريخ في قالب واقعي غاية في الجمال، دون أن يقع في شرك الاستسهال عبر إقحام التاريخ دون مبرّر فني، كما هو حاصل في ما يسمى بالرواية التاريخية الجزائرية. ويعدّ هذا العمل استثنائيا في مسار أحمد منور السردي، على اعتبار أنه العمل الوحيد ضمن مدونته السردية الذي تمكن فيه من التخلص لغويا من شبحَي أحمد رضا حوحو القاص الجزائري الشهير والطاهر وطار، اللذين ظل أحمد منور مأسورا بهما في جميع أعماله السابقة، واللذين يظهران بفجاجة على نحو خاص في عمله الموسوم “من أجلهما عشت” الذي يروي السيرة الذاتية للشيخ عبد الحميد بن باديس الصادرة عام 2019. لكنه على الرغم من كل هذه الميزات التي سمحت ببعثه ساردا متميّزا، لم يتمكن في المقابل طيلة 426 صفحة في روايته، من القبض على اللحظة التي من المفروض أن تشكّل ذروة هذه المقاربة، بسبب ما يشعر به القارئ من تردّد السارد وتجاهله للخلفيات السياسية والإيديولوجية لأهم شخوص الرواية بمن فيها شخصية البطل مصطفى بن سعيد.
بطل بخلفية عدمية
لعل الكاتب أراد من تبنيه “عدمية الخلفية” لبطله، تشكيل شخصية حيادية أو موضوعية تتعالى على أيّ توجه ديني أو إيديولوجي، وهو أمر يمكن تصوره وموجود أيضا في الرواية العالمية والعربية على غرار بطل رواية “اللجنة” للمصري صنع الله إبراهيم، لكنه لم يختر أحداثا تبرر هذا النوع من الأبطال والشخصيات ولا موضوعا يتماشى مع بطل بخلفية منعدمة، بل اختار أن يحمل بطل روايته اسم مصطفى بن سعيد، كما اختار أن يكون جزائريا انتقل في ظروف وأسباب أغفل النص عن ذكرها (على الرغم من أهمية ذكرها) إلى جزر القمر، لتدريس مقرّر العلوم الطبيعية في ثانوية تقع في موتسامودو، ثاني أهم مدن جمهورية جزر القمر بعد مدينة موروني، وهي شخصية سيدرك القارئ بلا شك أن الكاتب اجتهد في رسم ملامحها على نحوٍ ينأىبه عن أي تعصب إيديولوجي أو ديني، لكن القارئ سيلاحظ أيضا أنها لم تحظ من الكاتب بأي اشتغال على مستوى الخلفية، التي كان من شأنها إبقاء الرواية في دائرة القوة السردية، بمنحها حبكة غابت فيها ونهاية مبررة ومنطقية.
جاءت رواية “عاصفة على الجزر” في 19 فصلا معنونا، واشتملت على عدد معتبر من الشخصيات تراوح دورها بين شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية، بالإضافة إلى شخصية البطل التي تدور كل الأحداث حوله. هناك شخصيات أخرى يمكن اعتبار وجودها تأثيثيا كشخصية طاكي وأحمد صاحب دكان البقالة وخادم البطل المدعو عبدو، لتبقى أهم شخصيات الرواية التي بنى عليها الروائي مسارات سرده هي أندريا عشيقة البطل، جمان خادمة البطل وزوجته لاحقا، نايما أو نعيمة تلميذة البطل في الثانوية، أما الشخصيات التي يمكن وصفها بالخلفية فهي التي ظهرت في الفصلين الأخيرين من الرواية والمتمثلة في شخصية الرئيس القمري علي صويلح الذي صوره قاتلا سفاحا، خليعا وساذجا يؤمن بالشعوذة، وبوب دونار وزميله في السلاح “السلطعون الطبال” وشخصيات أخرى من المرتزقة التي ساهمت في الانقلاب.
تطرح هنا إشكالات كثيرة تتعلق بخيارات أحمد منور المتعلقة بشخصية بطله مصطفى بن سعيد، بداية باختياره لهذا الاسم الذي يكاد يتطابق مع اسم أشهر شخصية في الرواية العربية في القرن العشرين، وهي شخصية مصطفى سعيد للروائي السوداني الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، تماما كما يكاد هذا الاسم أن يكون اسم بوب دونار المستعار “سعيد مصطفى محجوب”، فأي دلالة أرادها الكاتب من هذه المصادفة المريبة؟
لكنّ أهم ما يُستشكل في خصوص شخصية البطل، هو ما تعلّق بالخيارات الفنية التي اعتمدها الروائي في بنائه لها، إذ يبدو أن أحمد منور لم ينتبه إلى أهمية تشكيل هذه الشخصية اجتماعيا ونفسيا وفكريا أيضا، فالكاتب باستثناء البناء الفيزيولوجي للبطل، لم ينفخ فيه أي شيء يبرر ما أراده منه في الرواية، مما أثر بشكل واضح في القيمة الفنية لهذه الرواية التي تنطوي على عناصر جمالية غاية في القوة، هي التي سمحت لها بولوج لائحة البوكر الطويلة.
سيلاحظ القارئ أيضا إسرافا في الوصف الخارجي على نحو يقطع المتعة أحيانا، ووجود أحداث لا أهمية لها ولا تأثير لها على السرد العام للرواية، بحيث يمكن أن تحذف دون أن يشعر بها القارئ، وهي مساوئ تتعلق بغياب عمل التحرير لدى الناشر، الذي يفترض أن يسبق عملية النشر تجهيزا لصدور الرواية، لكنها تبقى مساوئ لا تنقص من القيمة الفنية للعمل الذي لم يعبه إلا ما سبق ذكره في خصوص بناء شخصية البطل.
رواية “عاصفة على الجزر”، عمل سردي يستحق القراءة، يستحضر فيه الكاتب بشاعة ولا إنسانية المستعمر في محاولته إبقاء مستعمراته السابقة تحت مظلته، غير آبه بما يخلقه ذلك من مآس اجتماعية وسياسية ترهن واقع شعوب بأكملها.