ذات يوم، في أوائل الثمانينيات؛ جاء رئيسُ مجلس الوزراء السوري إلى إدلب على نحو مفاجئ قادماً من حلب. كانت الأوضاع الأمنية يومئذ فظيعة، الصراع بين السلطة الأمنية وحزب الطليعة المقاتلة على أشدّه، وقد استغلّ حافظ الأسد، وجلادُه شقيقه رفعت، هذه الأوضاعَ لشنّ حرب تأديبية على الشعب السوري كله. وصار المواطن السوري، نتيجة ذلك، يتنفّس، على حد تعبير ابن الرومي، من منخرٍ واحدٍ، فإذا عبّ من الهواء، بمنخريْه، أكثر من الكمية المسموح بها، يحاسَب حساباً عسيراً.. كان وزيرُ الإعلام أحمد إسكندر أحمد يشتغل، بدعم كبير من الأجهزة الأمنية، على تلميع صورة حافظ الأسد، وإيصالها إلى مستوى ما اصطُلح على تسميتها “عبادة الفرد”.
لم يقبل فرع حزب البعث أن تمرّ تلك الزيارة (التاريخية) على سكوت، فأوعز إلى الجماهير الكادحة، المناضلة، الواقعة تحت سلطته، أن تنطلق، عفوياً، لاستقبال ممثل القائد، وسرعان ما هرع الرفاق العاملون في الشّعب الحزبية، والمنظمّات الشعبية، والدوائر الحكومية، إلى المستودعات، أخرجوا منها صور القائد واللافتات التي تشيد بصموده، وانتصاراته، مكتوبة لمناسبات سابقة، وانطلقوا إلى الشوارع.. وما إن خرج رئيس الوزارة من فرع الحزب، حتى هاجمه رفيق بعثي مُطَعَّم على بعير من الخلف، دحش رأسَه بين ساقيه، وحمله ومشى به، فصار يصيح، كما لو أنه مبرمَج على الهتاف: بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ.
انطلق الموكب الصغير، المضحك، من الفرع باتجاه مبنى المحافظة، وبدأت الروافد تأتيه من كل مكان، وكان عناصر الأمن الذين مشوا حول الموكب أكثر عدداً من المحتفلين أنفسهم، وبدأت حافلاتٌ كبيرة وسيارات شاحنة محمّلة بالرفاق المناضلين، قادمةً من الأرياف القريبة، تُفرغ حمولاتها من الرجال المدجّجين بالصور واللافتات والحناجر الجاهزة للصراخ والزعيق، ومن فرط التشدّد الأمني حيال تلك الهوشة التي لم تكن بالحسبان، شوهدت عربة عسكرية مصفّحة، محمّلة بالجنود، تتوقّف أمام صالة الخنساء التي غُيِّرَ اسمها لاحقاً فأصبح “صالة الباسل”، ورأس جندي يطلّ من أعلاها ومعه رشّاش مصوّب إلى الأمام.
اتحد النهر البشري الجارف مع روافده في بداية شارع الجلاء الذي كان اسمُه شارع فرنسا (باعتبار أن فرنسا هي التي شقّته وعبدته)، وصارت تصبّ فيه جداول صغيرة قادمة من الحارات الفرعية، ولم يعد الصوت الهزيل الذي كان يصدًر عن رئيس الوزارة المسكين مسموعاً، وأصبح ينطبق على هتافه المثل الإدلبي “مثل الصراخ في سوق النحاسين”، فما كان من الرفيق المحمول في موازاته على الأكتاف إلا أن أسعفه بالميكروفون المحمول، ليردّد عبارة “بالروح بالدم” إياها، ولكن على نحو مسموع.
المفاجأة الكبرى، أو ما نسمّيه نحن، الأدباء الناثرين، ذروةَ الحكاية، حصلت عندما وصل الموكب غير المهيب إلى الطرف الجنوبي من ساحة البازار، ففي دائرة متوسّطة الاتساع، كانت فرقة الطبل والزمر والسيف والترس تشكل نواة مرحة، يتحلّق حولها الناس، وفيها ينقسم حملةُ السيوف إلى فريقين، والكل يصغون إلى مطربٍ شعبيٍّ يغنّي موالاً يمتدح فيه حافظ الأسد وأخاه رفعت. وبمجرّد ما ينتهي الموّال، يهجم السيافةُ على بعضهم، ويضربون سيوفهم بالتروس، وتنتهي الرقصة بأن يطأطئ كلٌّ منهم رأسَه للآخر، معلناً عن محبّته.. والجميل في الأمر أن المطرب العتليت كان قد ألف، في عجالة، بيت عتابا عن رئيس الوزارة. ولدى وصول الموكب، غناهُ فانطلقت الألعاب، ووقف لاعب النبّوت (عصا طويلة تشبه عصا القفز بالزانة)، وتفنّن في تدويره وترقيصه، وفجأة.. أسند النبّوت إلى الأرض، وقفز، ونزل على الواجهة الأمامية لشاحنة متوقفة في الجوار، وصاح: اسمعوا أيها الإخوة، عندي كلام مهم، سأقوله حتى ولو على قطع رقبتي! صمت الجميع، مشحونين بالخوف من أن يقول الرجل كلاماً يعكّر كل شيء. تأهّب عناصر الأمن، لقّموا بواريدهم، ومسدّساتهم. قال الرجل: سأقولها، ولا أخاف. أنا مع القائد حافظ الأسد حتى الموت!.