************************************************
إندلعت احتجاجات طلابية واسعة في جامعة كولومبيا الأمريكية سرعان ما توسعت كالنار في الهشيم إلى جامعات عديدة في الولايات المتحدة، على رأسها جورج واشنطن وهارفارد تضامنا مع غزة وتنديدا بحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأمر الذي أشعل موجة تضامن عالمية، بعد ان لجأت رئيسة الجامعة “نعمت شفيق” إلى استدعاء قوات الشرطة والسماح لها باقتحام الحرم الجامعي من أجل قمع الطلبة المحتجين على جرائم الإبادة في غزة وانهاء اعتصامهم داخل الحرم الجامعي.
ثورة الجامعات الامريكية تتسع يوما بعد يوم. جاءت ردا على الموقف الرسمي الأمريكي الداعم لجرائم اسرائيل وتعبير عن الصدمة الشبابية بجملة المواقف المنحازة لإسرائيل، والدعوة للانقلاب عليها كونه يتناقض مع المبادىء التي نشأوا عليها. ثمة تنازع واضح الآن للسرديتين الاسرائيلية والفلسطينية في المجتمع الأمريكي، لا يترك مجالا للتوفيق بينهما ويعزز الاستقطاب الاجتماعي والسياسي داخله كما في أوربة وكندا وأوستراليا ،وهو ما يرسخ الإعتقاد باعتبارها سيرورة متواصلة من نضال الحركة الطلابية في ستينات القرن الماضي خلال الحرب الفييتنامية، وبداية الانفضاض عن الأضاليل الإسرائيلية، وانحياز الشباب الجامعي للسردية الفلسطينية من خلال صور ضحايا غزة الناطقة وهم يستعطفون الضمير العالمي بكبرياء، رغم تعرضهم للإبادة بواسطة القتل والتجويع وانتفاض الطلاب والطالبات مؤشر على عزوف قبول الهيمنة الأيديولوجية الراسخة التي أحاطت معرفتهم في النظر إلى قضايا منطقتنا بوعي استشراقي استعماري، وقد آن أوان فك السحر المختوم الذي أحاط وعي أجيال في النظر الى القضية الفلسطينية من زاوية النظر الاسرائيلية الإلغائية للحق الفلسطيني وجودا واعتبارا، ومع وجود تقنيات الفضاء الرقمي الذي ساهم في تقويض الوسائل التقليدية بالكشف الدؤوب لكل زوايا الكارثة المستمرة في قطاع غزة، وإبداعات “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” وهو يشيع الدمار والقتل والتنكيل والسحل. تعددت خيارات وبدائل الطلبة فيما يتعلق بالمصادر المتاحة وصارت أحكامهم على السرديات الخلافية أقرب إلى الإنصاف منها الى الإجحاف المضلل كما هو الحال المزمن بالنسبة للقضية الفلسطينية
نحن الأن أمام مشهد تاريخي سياسي ثقافي جديد يمكن اعتباره بمثابة بدايات ثورة ثقافية – سياسية أمريكية على أكثر من محور سواءً في قضايا النظر الى إدارة مشكلات العالم والأهم انكشاف زيف السردية الاسرائيلية وخوائها الاخلاقي مع جيشها ( الأكثر أخلاقية في العالم) في نفس اللحظة التي ينهمر فيها شلال الدم الفلسطيني في غزة والضفة الغربية من على شاشات التلفزة أمام أنظار الجميع.
وهذا الانكشاف يقود الطلبة والمحتجين عموما للولوج الى السردية الفلسطينية ومن ثم إعادة اكتشافها بعيدا عن تأثيرات الدعاية الصهيونية التي ظلت تسيطر على العقل الغربي حتى مجيء الفضاء الرقمي وتقنياتها الذي وفر المرجعيات البديلة.
فمنذ السابع من أكتوبر تخمرت تجربة غزة من خلال صمود المقاومة وتحييدها لجبروت القوة الاسرائيلية بمعجزة أنفاق غزة والتفاف الشعب حولها رغم تعرضه للإبادة وتحول علم فلسطين والكوفيه المرقطة البيضاء إلى أيقونات شبابية في العالم حيث طوقت بها الأعناق والسواعد ووضعت في البيوت، إلى جانب صور رموز نضالية عالمية مثل غيفارا ومانديلا.
مهما يكن من أهمية المرجعيات البديلة في توفير الحقائق لجماهير الطلبة وذويهم كما لأساتذتهم
فإن ضلوع الإدارة الامريكية في حرب الإبادة ومناوراتها المكشوفة لإدامة الحرب بتحقيق في أفق أهداف اليمين واليمن الإسرائيلي المتطرف تعتبر الحافز الرئيس الذي تسبب بالانخراط الفعلي لشباب الولايات المتحدة بكل أعراقهم في أتون ثورة الجامعات، ولا نستبعد أن يكونوا تأثروا بتجربة الطيار الأمريكي الشجاع الذي أشعل النار في نفسه حتى الموت خارج سفارة اسرائيل في واشنطن.
هذا الضلوع السافر كشف بعمق تناقضات المجتمع الأمريكي، والقلق الذي يراود الأجيال الصاعدة، كما أغلب طبقات الأمة الأمريكية لما يقودهم إليه تحالف قوى المال والعسكرة في كلا الحزبين الرئيسيين نحو نزعة إمبريالية تذكر بالماضي الاستعماري المباشر ومرارة التجربة الفييتنامية، واستنزاف طاقات البلد في دعم وتمويل الحروب الدولية الناشبة (وافق الكونغرس على تقديم دعم95 مليار لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان)
إننا في ح.ع.ش نثمن ثورة الجامعات الأمريكية في بعديها السياسي المتوقد، وعمقها الثقافي الذي سيفتح الآفاق للانقلاب على أكاذيب الهيمنة الايديولوجية وفي مقدمها هيمنة الايديولوجية الصهيونية المقامة على مؤسسات ضاربة الجذور كمنظمة “ايباك” وتنبع قيمة هذه الثورةاليوم في جذور ومنابع طاقتها التي تفجرت في أتون الحرب الفييتنامية، وإجبار الطبقة السياسية الحاكمة على الخروج من المستنقع الفييتنامي في سبعينات القرن الماضي. ونرى فاعليتها اليوم أقوى من مجلس الأمن وجلساته الماراثونية في امكانية تحقيق وقف إطلاق النار الشامل،ومقاطعة الجامعات والشركات المرتبطة بدعم الحرب بشكل جدي وفاعل، وقف المساعدات الأمريكية العسكرية والمالية والسياسية التي تقدم لإسرائيل، ووقف الحصار والتجويع، والكف عن المناورات التي تسعى لكسب الوقت وإطالة امد الحرب.
الحركة الطلابية في أمريكا تستقطب المزيد من الطلاب وذويهم وأساتذة الجامعات والباحثين والعلماء من أكبرالجامعات ومراكزالدراسات وأيضا النخبة من المثقفين مما سيزيد رقعة الاحتجاجات ويضعف الموقف الأمريكي أكثر فأكثر.
المتظاهرين من الشباب هم في أعرق الجامعات، أبناء الطبقة البرجوازية، هؤلاءالذين يخرج منهم صناع المال والاقتصاد والسياسة في أمريكا! هذاالجيل الذي سيحكم أمريكا مستقبلا ويهدم نزعتهاالاستعمارية.
ومع الحذر في صياغة خطاطة مسبقة تعكس وعيا رغبيا في إمكانات هذه الثورة وبداياتها الخصبة فإن الأمل متاح اكثر من اي فترة سبق في توسيع نطاقها خارج أسوار الجامعات مثل كرة الثلج لتشمل قطاعات وحركات اجتماعية متضررة من الدعم اللامحدود لاسرائيل على حساب حياة المواطن الأمريكي ودافعي الضرائب وهو اقحام مرفوض للمواطن الامريكي في حرب تناقض مبادئه المستمدة، من دستور الولايات المتحدة التي تربى عليها وعيه المبكر ومنها استمدت الجامعات أنظمتها الداخلية ليكشف زيفها وخاصة بعدما شهدته الجامعات الامريكية من انتهاكات أمنية بحق الطلاب الذين خرجوا بمسيرات سلمية رفضا لحرب الإبادة الجائرة ضد الشعب الفلسطيني.
إن هؤلاء يضغطون على القضاءالأمريكي ويضعون السياسة الأمريكية الحالية والنظام الأخلاقي الأمريكي العالمي تحت خيارات جميعها تصب في صالح القضية الفلسطينية.
إن هؤلاء يغيرون تدريجيا الرأي العام الأمريكي تجاه مايحدث في غزة ويفرضون سردية جديدة مناهضة لسردية الاعلام الامريكي والغربي الممول بجنون من الصهيونية العالمية
هؤلاء يثبتون تراجع تأثيرالحركة الصهيونية في المجتمع الأمريكي،بعد تكشف فجواتها واكاذيبها وهذا له تبعاته، هؤلاءأجبروا جامعاتهم العريقة على مقاطعة الشركات الداعمة للصهيونية بسحب استثماراتهم، ودفعوا منظمة العفو الدولية على الوقوف في صفّهم، وآلاف المنظمات الحقوقية داخل وخارج أمريكا للدفاع عنهم. وبالتالي الانحياز بطريقة غير مباشرة للسردية الفلسطينية. هؤلاء الطلبة يلهمون كل يوم الطلاب في باقي جامعات العالم حتى في عالمنا العربي.
.
زيف معاداة السامية والحقيقة التاريخية الموضوعية:
.
ضمت ثورة الجامعات جميع هذه الاطياف بما فيهم الطلبة اليهود الذين تبرأوا من الصهيونية ودولة الاحتلال الاسرائيلي التي يرونها كوصمة عار على اليهودية وتتساقط أوراق تهمة معادية السامية التي لم تعد تلقى قبولا إلا في وعي رعاتها ومؤلفيها الصهاينة هذا السقوط التدريجي يحتاج مع ذلك الى ورشة عمل فكري وسياسي عالمي لتقويض المزاعم الصهيونية والعودة الى التبني من جديد لقرار هيئة الامم المتحدة الذي يعتبر الصهيونية ايديولوجية عنصرية بعد ان تم طيه قبل عقود وصار نسيا منسيا.
.
المكارثية تطل برأسها من بوابة الصهيونية وداعميها:
.
يتفق الجميع على أن الولايات المتحدة بلد الحريات، والنظام الديموقراطي رغم ما يشوبه من خروقات وتجاوزات، لكن حراك طلاب الجامعات دفع بالأوساط الأكثر رجعية وممالأة للصهيونية في إشاعة أجواء القمع والتشجيع عليه لفت عضد الحركة الاحتجاجية وترويعها وفرض أجواء بوليسية تذكر بحقبة المكارثية مطلع خمسينات القرن الماضي.
أين جامعاتنا العربية من كل ما يجري؟ :
ندرك جيدا مدى التقييدات التي تحيط جامعاتنا العربية بقيود العسف والقمع والمنع والأثر الذي خلفته إخفاقات الربيع العربي نحو مزيد من مصادرة الحريات والحركات الطلابية والشلل الذي يهيمن على جامعاتنا، وكل مرافق حياتنا اليومية رغم تعاطف شعوبنا وتضامنها مع شعب غزة فإن هذا التعاطف يصطدم بجدار القمع المسلط في التعبير عن الاحتجاجات، وحتى إذا سمح له كما يجري في الأردن فلا يتعدى تفريغ انفعالات المتظاهرين وتحييد أهدافهم المطالبة بوقف اتفاقية السلام(وادي عربة) أو طرد السفير الإسرائيلي في عمان لتبقى ضمن نطاقاتها المحدودة.
لكن إزالة هذا الجدار تعتبر اول مدماك حقيقي في ضرورة فرض الحريات الديموقراطية وإقامة نظام ديموقراطي يلبي الإرادة الشعبية وهو ما يعتبر قضية جوهرية على جدول أعمال حركاتنا واحزابنا وجبهاتنا في ربط القضيتين الوطنية والديموقراطية في وحدتهما التي لا تقبل الانفصال وقد آن الأوان ان نخوض هذا النضال المثمر والتراكمي الذي لا ينفصل فيه انتزاع الحريات الديموقراطية ودحر الديكتاتورية عن النضال لدحر الصهيونية ولجم أهدافها في فلسطين وما حولها.
. حزب العمل الشيوعي في سورية
. منظمة الخارج
. 01/05/2014