في ظلّ ما تشهده الساحة السورية من تحوّلات سياسية وعسكرية متسارعة، ولا سيما الأحداث في محافظة السويداء بجنوب سورية، مع ما ستترتب عليها من نتائج، خصوصاً حول قدرة السلطة الجديدة على بسط نفوذها أو التفاهمات التي ستتوصل إليها مع الجماعات المحلية، تثار تساؤلات حول انسحاب هذا المشهد على مناطق أخرى، خصوصاً في شرق وشمال سورية، حيث لا يزال ملف اندماج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) داخل أجهزة الدولة السورية معلقاً وبلا تقدّم منذ توقيع اتفاق 10 مارس/آذار الماضي بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العسكري لـ”قسد” مظلوم عبدي.
“قسد” تنفي مهلة الـ30 يوماً
وبرز أخيراً نفي “قسد” معلومات نشرها موقع “ميدل إيست آي” حول مهلة 30 يوماً منحتها لها الولايات المتحدة وتركيا للاندماج في مؤسسات الحكومة السورية. وقال مدير المركز الإعلامي لـ”قسد”، فرهاد شامي، أول من أمس الاثنين، إن ما ورد في هذا التقرير “حول قواتنا ودورها المستقبلي في سورية معلومات كاذبة وتهدف إلى تضليل الرأي العام بشكل متعمد”. وأعاد هذا النفي ملف المفاوضات بين الحكومة السورية و”قسد” إلى الواجهة في مرحلة توتر تشهدها السويداء، خصوصاً بعدما كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد شدّد خلال اتصال مع نظيره الأميركي ماركو روبيو، يوم الجمعة الماضي، “على أنه لن يتم السماح إطلاقاً للتنظيمات الإرهابية باستغلال الوضع في جنوب سورية”، في إشارة إلى “قسد” التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية.
والتقى المبعوث الأميركي إلى سورية، توم برّاك، السبت الماضي، عبدي، وقالت السفارة الأميركية في سورية، على “إكس”، إن برّاك وعبدي التقيا (السبت)، “لمناقشة الوضع الراهن في سورية والحاجة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لاستعادة الهدوء والاستقرار، كما ناقشا الخطوات العملية نحو الاندماج في سورية موحّدة من أجل مستقبل سلمي ومزدهر وشامل ومستقر لجميع السوريين، واتفقا على أن الوقت قد حان للوحدة”. وأضافت أن برّاك “شكر” عبدي “على قيادته وعلى شراكة قوات سوريا الديمقراطية المستمرة في مكافحة تنظيم داعش في سورية”. وكان برّاك قد التقى عبدي في دمشق قبل ذلك، في 9 يوليو/تموز الحالي، بحضور الشرع، مع استمرار فشل المحادثات بين الحكومة السورية و”قسد”. وقال برّاك في مقابلة مع وكالة أسوشييتد برس، نشرت أول من أمس الاثنين، إنه لا يعتقد أن أحداث السويداء سوف تعطّل المباحثات بين دمشق و”قسد”، مضيفاً أنه “قد يحصل اختراق خلال الأسابيع المقبلة”، كما علّق بأن الولايات المتحدة لا تملك “أي موقف” بشأن إمكانية توقيع سورية وتركيا اتفاقاً دفاعياً. وبحسب تعبيره، فإنه “ليس من شأن الولايات المتحدة أو مصلحتها أن تقول لأي من الدول المحيطة ماذا تفعل بعضها مع بعض”.
ونصّ الاتفاق بين الشرع وعبدي في مارس الماضي على دمج “قسد” في المنظومة العسكرية للبلاد، وتُرك للجان مشتركة التباحث في أفضل الطرق لتطبيق هذا المبدأ. كما نصّ الاتفاق على ما يلي: ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وجميع مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، والمجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقّه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية، ووقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية ودمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز. كما تمّ الاتفاق على ضمان عودة كافة المهجرين السوريين إلى بلادهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية، ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد وكل التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها، ورفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري، كما أن تعمل وتسعى اللجان التنفيذية على تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي.
لكن “الإدارة الذاتية” الكردية عادت ووجّهت انتقادات للسلطة على خلفية الإعلان الدستوري (مارس الماضي) ثم تشكيل حكومة قالت إنها لا تعكس التنوّع. وفي مايو الماضي، شدّد عبدي على التمسّك بـ”سورية لامركزية وتعيش فيها جميع المكونات بكامل حقوقها وألا يتم إقصاء أحد”.
الموقف الأميركي ورقة ضغط
ورأى الباحث السياسي محمد المصطفى، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن المعطيات الحالية تشير إلى التزام الحكومة السورية بالمسار التفاوضي مع “قسد” والابتعاد عن الانجرار إلى مواجهة عسكرية. وأضاف أن “خيار السلطة الجديدة لا يقوم على الانجرار إلى العنف أو استخدام القوى العسكرية إلى الآن، بل تعتمد بشكل كبير على الموقف الأميركي الداعم لوحدة سورية وبسط السيادة على جميع أراضيها، وهو أيضاً عامل آخر في ملف التفاوض”.
وما يهدّد التفاهمات بين دمشق و”قسد”، وفق المصطفى، هو وجود تيارات أو مجموعات ضمن “قسد” رافضة لأي تفاهمات مع دمشق، ولديها مطالب مستحيلة التحقق، منها مفهوم الإدارة الذاتية ومفهوم الاستقلالية للجيش، أو وجودهم كمكوّن مستقل ضمن الجيش السوري، والاحتفاظ بكتلة واحدة، كذلك موضوع بقاء الثروات الطبيعية بنسب معينة تحت سطوتهم، وهذا يفقد القيادة السورية سيادتها على الثروات وعلى العسكرة، وعلى الحدود وعلى المناطق شرق الفرات، وبالتالي لن تتحقق هذه الأمور، وفق اعتقاده.
وبحسب المصطفى، فإنّ المشكلة هي أن عبدي غير متمكّن من قيادة “قسد”، أو أنه لا يملك الوسائل الضاغطة على باقي المكونات في هذا التنظيم. وأضاف: “بالطبع مؤشرات الدعم الأميركي للقيادة السورية قائمة وواضحة، من خلال التصريحات الدبلوماسية المتواترة، الأمر الآخر السعي إلى تقريب الشقّ أو المسافة بين دمشق وقسد، وذلك من خلال إجراء لقاءات مباشرة في دمشق”. ومن أوراق الضغط على “قسد”، وفق المصطفى، تقليص الوجود الأميركي شرق سورية. وبرأيه، فإن “الأميركيين من الناحية العسكرية، يتحضّرون للانسحاب، وهذا الأمر يصب في مصلحة الحكومة، وهو مؤشر على أن السلطة في دمشق قادرة على الحلول في المنطقة، وقادرة على ملء الفراغ ومحاربة داعش، وهذا بالتالي يعني سحب ورقة داعش من يد قسد”.
وبشأن تأثير أحداث السويداء على المفاوضات مع “قسد”، رأى المصطفى أن “ما حدث في السويداء سيكون له أثر أو تأثير في مناطق قسد أو على قسد، وربما الأمر متعلق بمآلات الأمور في السويداء وكيف ستنتهي، وعلى قدرة السلطة الجديدة على بسط نفوذها أو الوصول إلى تفاهمات بما يتعلق بموضوع السويداء”. وحول جدول زمني لملف التفاوض بين الحكومة السورية و”قسد”، قال المصطفى: “الجدول الزمني لا يمكن تحديده بثلاثين يوماً، ولا أعتقد أن هناك تواريخ جدّية أو نهائية للتفاوض، التفاوض على الأغلب مفتوح بين دمشق وقسد، وسيستمر برعاية أميركية طبعاً، وبضغط تركي، لأن تركيا لها دور مهم في المنطقة، خصوصاً المنطقة الشرقية، وستحاول بكل ثقلها أن تكون الأمور سريعة، وكذلك الأميركيون لديهم رغبة بالوصول إلى تفاهمات سريعة وتنفيذها لمنع تمدّد داعش مرة أخرى نتيجة الفراغ الذي شكّله انسحاب القوات الأميركية من المنطقة”.
من جهته، رأى المحلل العسكري العميد فايز الأسمر، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن المهل التي أعطتها الحكومة السورية لـ”قسد” لتنفيذ جميع بنود اتفاق 10 مارس باتت غير مجدية، والتي تقضي بوقف إطلاق النار واندماج “قسد” الكامل ضمن مؤسسات الدولة. وأضاف الأسمر: “للأسف فإن قيادات تلك المليشيات باتت، وكما هو معروف، تُماطل وتشتري الوقت للهروب من تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها، ولكن إلى متى هذا الهروب؟ بل إلى متى ستستمر الدولة السورية بصبرها وحلمها وتغليب الحوار والتوافق على الحلول الخشنة والعسكرية من أجل حفظ الدم السوري”. وحذّر الأسمر من أن “الطاولة قد تنقلب على قسد”، مشدداً على أن “الحل العسكري مطروح، لكن الخسائر بالتأكيد ستكون كبيرة وتتحمّل قسد وحدها المسؤولية عن ذلك”.
من جهته، رأى رئيس حزب الوسط الكردي في سورية، القيادي في المجلس الوطني الكردي السوري شلال كدو، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الضغوط من قبل برّاك على “قسد” ستزيد في الأيام والأسابيع المقبلة، وهي من الجانبين الأميركي والتركي، وذلك بهدف دمج “قسد” مع وزارة الدفاع السورية أو مع الجيش السوري.
ولفت إلى أن المفاوضات لن تكون ضمن جدول زمني قصير، مشيراً إلى أن هناك الكثيرين يقولون إن المناخات وكذلك الظروف مؤاتية لهذه الخطوة، نظراً لأن الاتفاق بين الشرع وعبدي، أتى في ظروف مشابهة لهذه الظروف، فالحكومة السورية كانت خارجة للتو من معارك الساحل التي راح ضحيتها المئات من الأبرياء، والآن خرجت للتو من معارك السويداء. ولم يستبعد كدو “أن نرى في نهاية المطاف دمج قسد مع القوات السورية، لأنّ الظروف المحيطة بها تغيّرت، النظام ذهب وأذرع إيران ذهبت، والأوضاع برمتها في المنطقة تغيّرت، وبالتالي لا مناص أمام هذه القوات إلا أن تنضم بشكل أو بآخر إلى وزارة الدفاع السورية”.