خليل تقي الدين يتفرد بالسرد الواقعي والرمزي لقصة رجوع الميت
ملخص
غداة اندلاع الحرب في السويداء وسقوط قتلى من طائفة الموحدين الدروز، جرى كلام عن التقمص الذي يقول، بحسب العقيدة، بانتقال روح الميت إلى جسد حي. هذه العقيدة تحدث عنها كثر على الشاشات الصغيرة وفي مواقع التواصل الاجتماعي. هنا قراءة في أول رواية لبنانية عن التقمص.
كثيرة هي الشعوب حول العالم التي تؤمن بنظرية التقمص، سواء تلك التي تعتنق أدياناً وضعية كالهندوسية والبوذية، أو تلك التي تعتنق أدياناً سماوية كبعض الفرق الإسلامية. مع الإشارة إلى أن مضمون هذا الإيمان والغاية منه يختلفان من دين إلى آخر، ومن فرقة إلى أخرى، ذلك أن لكل فهمه الخاص للمصطلح، وطريقته في مقاربة الحقيقة. ولم يكن الأدب، في أنواعه المختلفة، بمنأى عن تناول هذه النظرية. وهو ما فعله جبران خليل جبران في رسائله إلى مي زيادة، وأمين الريحاني في كتاب “خالد”، وميخائيل نعيمة في كتاب “مرداد”، وآخرون. ولعل رواية “العائد” للأديب اللبناني خليل تقي الدين التي صدرت، في طبعتها الأولى في عام 1973، عن دار النهار في بيروت، هي من أولى الروايات العربية التي تتناول هذه النظرية، وهي تفعل ذلك، من وجهة نظر الموحدين الدروز.
تجري أحداث “العائد” في الربع الأول من القرن الـ20، في منطقة الشوف اللبنانية، في جزئها الواقعي، وفي منطقتي الجبل وبيروت في جزئها الواقعي السحري. وتتمحور حول شخصية الفتى سلمان حسين زين الدين، المولود في قرية بتلون الشوفية لأسرة متدينة، تكتسب معيشتها من العمل في الأرض، وتتمسك بأهداب الدين والفضيلة، فالأب ينقطع إلى العبادة، ويعيش حياة متقشفة، ويرضى بالكفاف، ويعرض عن مفاتن الدنيا، مما أكسبه مكانة دينية متقدمة في مجتمعه. والأم بدورها تقوم برعاية أسرتها، وتحرص على النهوض بواجباتها الدينية، وتربي أولادها على هدي السلف الصالح، مما أكسبها احترام الآخرين.
كلام غريب
رواية “العائد” (دار نوفل)
يرصد تقي الدين نشأة الطفل سلمان في هذه الأسرة المتدينة التي فقدت ثلاثة من أبنائها، في ثلاث سنوات، خلال سعيهم لتأمين القمح من جبل العرب، إثر المجاعة التي طاولت جبل لبنان، بفعل الحصار الذي ضربه الحلفاء على الدولة العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى، مما جعلها تعتصم بحبل الصبر، وتخشى على ولديها الآخرين محمود وسلمان، حتى إذا ما انتابت الأخير بعض الكوابيس، وراح يتحدث، بين فترة وأخرى، عن معروف والدولاب والقشاط، يقلق كلامه الغريب الأسرة، وتتوخى علاجه بالرقى والتمائم دون طائل. وإذ يصطحبه والداه، في مهمة خطوبة، إلى بلدة بعقلين الشوفية، ويصلون إلى عين البلدة، يتجمد الطفل في مكانه، مما يشكل رأس خيط في الحكاية، يتجه إلى المطحنة المجاورة للعين، ويرى صاحب المطحنة حذاء القشاط، يصرخ فيه بالاسم محذراً، ويصرح بأنه خزاعي عزام الذي قتله القشاط منذ سنوات، فيأتي هذا التصرف من صبي صغير ليذهل الحاضرين، ويدركوا أنه ينطق بما حصل له في جيله السابق. ويشكل تحذيره لابنه معروف من خطر القشاط، وتعرفه إلى زوجته بين نساء كثيرات، وقيامه بتشغيل المطحنة، واتخاذه الوضعية نفسها جلوساً وكلاماً في دكان صديقه سعيد رافع أدلة على صحة دعواه، مما يجعل هذا الأخير يؤمن بعد إلحاد، ويجعل آخرين يستعيدون وقائع تذكر فيها متقمصون حيواتهم السابقة. وهكذا، يصدر هذا الجزء من الرواية عن منظومة قيم ريفية، دينية، تعلي الروح وأسئلتها على الجسد ومتعلقاته، وتقدم الإيمان على ما عداه.
صندوق قديم
يرصد يسرد تقي الدين التحولات التي تطرأ على سلمان الفتى، بعد رحيل الأب، فتشكل الواقعة نقطة تحول في حياته، تضعه وجهاً لوجه أمام أسئلة الحياة والموت والروح والجسد، ينقطع عن الدراسة في مدرسة الإخوة المسيحيين الداخلية في دير القمر، يخلو إلى نفسه في خيمة على سطح بيته، يشعر بالغربة والفراغ، ويتخذ قراراً بأن يتمرد على تربيته الروحية، فيطلق لجسده العنان. وهو ما يترتب عليه تداعيات خطرة. على أن الواقعة المهمة التي تمثل رأس خيط في هذا الجزء تكمن في عثوره، ذات يوم، على صندوق قديم يحوي رزمة أوراق صفراء، خلال بحثه عن كنز مدفون في دهليز تحت الأرض، في خرائب كفرة المحاذية لبلدة الباروك، حتى إذا ما قرأ تلك الأوراق وجد أنها تشتمل على قصة حب تعود إلى زمن الحاكم بأمر الله، يقدم فيها الحبيب إسماعيل خاتماً ذهبياً حُفرت على فصه نخلة إلى حبيبته أمينة التي يقبض عليها جنود الخليفة الجديد، ويقطعون رأسها، بينما ينجح هو في الفرار.
العائدون من الغيبوبة… رحلة الغرابة والغموض
لعبة الحياة والموت بين السرد الشعبي والفانتازيا
وهنا، تبلغ الفانتازيا الذروة حين يتوهم سلمان أنه اسماعيل الذي عاش قبل قرون عدة، وأنه لا بد له من أن يلتقي حبيبته آمنة، ذات يوم، حتى إذا ما نزح إلى بيروت، وعمل سائقاً لدى أسرة غنية، ووقع في براثن سيدة الأسرة، وأطلق لحصان جسده العنان، يتنكر لماضيه الريفي الروحي، ولا يتورع عن ارتكاب الموبقات. وهنا، تعري الرواية الطبقة الغنية الغارقة في اللذة والخيانة والمقامرة، وتصدر عن منظومة قيم مدينية مختلفة، يقف المال في رأس سلمها، ويتم فيها إعلاء الجسد على الروح، وتتقدم اللذة على ما عداها.
خاتم الذهب
غير أن نقطة التحول الكبرى في مجرى الأحداث في هذا الجزء تكمن في قدوم مدام سامي باشا المصرية وابنتها الجميلة سوسو لقضاء ما تبقى من الصيف في لبنان، بدعوة من سيدة الأسرة. فحين يرافق سلمان الأخيرة لاستقبالهما، يرى الخاتم نفسه الذي قدمه إسماعيل لأمينة في القصة القديمة في بنصر الفتاة، فيتقمص شخصية إسماعيل مجدداً، ويرى في الفتاة حبيبته أمينة التي عاهدها على أن يلتقيا في حياة أخرى، ويروح يتحين الفرصة للانفراد بها وإخبارها بحكايتهما القديمة الجديدة، حتى إذا ما نجح في ذلك، تترجح الفتاة بين انجذابها له وخوفها منه. وحين تدرك أمها حراجة الموقف وغرابته، تقرر، بتشجيع من عشيقته سيدة القصر، العودة بابنتها إلى مصر. وهنا تثور ثائرة سلمان، يتعقبهما إلى المرفأ، ويحاول منع الفتاة من السفر، فيتم القبض عليه وإيداعه السجن، وتستغل ربة عمله وعشيقته السابقة نفوذها، فتلفق له شهادة جنون، ويتم اقتياده إلى العصفورية مصفداً بالزرد والحديد. بالتالي، يدفع سلمان ثمن إيمانه، ويسقط جسده في معركته الأخيرة. أما روحه التي قهرت الموت، وعبرت الحدود، وتحدت الزمان، فتستعصي على التقييد، وتنتصر على الموت. وهو ما يعبر عنه تقي الدين في تساؤله في نهاية الرواية بالقول: “وهل يقيد من قهر الموت، وتخطى الحدود، وتحدى الزمان؟” (ص 210).
هكذا، نكون إزاء نظرية التقمص في “العائد”، بحيث يتذكر فيها العائد حياته السابقة العائدة لجيل خلا، ويقدم الأدلة الحسية على صحة دعواه، ساردا حياة سابقة لعشرات الأجيال، ومتقدماً بدليل عثر عليه في سرداب تحت الأرض ويفتقر إلى الحجية اللازمة.
هذه الوقائع، يضعها القاص والروائي خليل تقي الدين، احد الرواد اللبنانيين، في 27 وحدة سردية قصيرة، تتبع مساراً خطياً، يمضي قدماً وفق إيقاع معين. ويعهد بسردها إلى راوٍ عليم. ويصوغها بلغة رشيقة، تتوخى الجمل القصيرة والمتوسطة، وتسمي الأشياء بأسمائها، وتعبر عن روح المكان، وتعكس إيقاع الزمان.