دومينيك دو فيلبان يرى أن الرئيس الأميركي يبدو كرجل من القرن الـ19 لكنه مرتبط بناس من القرن الـ22
ملخص
في تلفزيون الواقع الذي يدير منه ترمب سياسته بدا مبهوراً بقوة القلم في يده. تصور أنه يستطيع فعل أي شيء يريده من أميركا والعالم بالقلم. يستطيع تجاوز الدستور بأمر تنفيذي. يستطيع القفز من فوق القضاء.
تعددت السيناريوهات والعنوان واحد، التحولات الهائلة في الشرق الأوسط منذ “طوفان الأقصى” وحرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد وحرب أميركا وإسرائيل على إيران بعد ضرب أذرعها. ناس تتصور أن الرئيس دونالد ترمب يعمل على إعادة تشكيل المنطقة بعد 100 عام من تشكيلها في الحرب العالمية الأولى على أيدي بريطانيا وفرنسا، وكانت روسيا هي الشريك الثالث لكن الثورة الشيوعية التي أسقطت الإمبراطورية القيصرية أخرجت موسكو من خرائط سايكس- بيكو. وناس تعتقد أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي كرر القول خلال الحرب “غيرنا الشرق الأوسط” هو من يؤثر في مواقف ترمب من إدارة الحرب، بصرف النظر عن التباين عند الوصول إلى إدارة الص فقات.
محللون وأكاديميون وإعلاميون يرون لعبة التقسيم والتفتيت بدءاً من سوريا، مع أن أميركا “لا تثق بالدول الصغيرة” كما كان يقول الدكتور هنري كسينجر، وتفضل التعامل مع قائد واحد يستطيع اتخاذ القرارات من دون تأخير أو مع قادة كبار. وأساتذة في مدرسة “الواقعية” يعتقدون أن اللعبة الإقليمية بإشراف أميركا لا تزال بين إسرائيل وتركيا وإيران المنحسر نفوذها، وأن اللاعب العربي الذي كان مغيباً أو غائباً دخل إلى الملعب أخيراً بقوة.
لكن الشرق الأوسط اليوم يبدو في وضع أخطر مما كان عليه بعد انهيار السلطنة العثمانية وتنصل بريطانيا من وعودها للشريف حسين قبل قيام الثورة العربية. فهو اليوم طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أي وقت مضى. أيام المد القومي العربي صارت وراء العرب. وأيام الإسلام السياسي المتطرف والسلفي أنتجت ما هو أخطر من “داعش” و”القاعدة”. في سايكس- بيكو لم يكن لأهل المنطقة العرب رأي في التقسيمات التي قالوا في الخطاب إنهم ضدها ثم صاروا يتمسكون بها ويرفضون أي مس بها.
إلا أن الخريطة البريطانية- الفرنسية تركت مكاناً مفترضاً لدولة يهودية بموجب وعد بلفور. أما الخريطة الأميركية التي لم تكتمل، فإن الأتراك والإسرائيليين وحكام الدول العربية المهمة لهم رأي في تشكيلها. وأما المفترض في الخريطة الجديدة، فإنه تحديد الأدوار والوظائف لدول المنطقة في إطار نظام أمني بإشراف أميركي.
صحيح أن خطوط سايكس- بيكو بقيت ثابتة مع تغيرات جزئية. لكن الصحيح أيضاً أن ثبات الجغرافيا لم يمنع التغييرات الدراماتيكية داخل الدول. فلا سوريا اليوم هي سوريا. ولا لبنان هو لبنان. لا العراق هو العراق قبل الغزو الأميركي الذي أدى، بالقصد أو بالخطأ، إلى انهيار السد العربي الذي كان يمنع وصول المد الإيراني إلى العراق وسوريا ولبنان. ولا ما بقي من فلسطين في يد أهلها يكفي لقيام دولة في حدود الخامس من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. أما الأردن، فإن سلامه مع إسرائيل لم يضمن له التوقف الإسرائيلي عن التخطيط لتهجير السكان من الضفة الغربية إلى الشرقية على أساس أن يكون الأردن هو البديل من فلسطين.
لكن السؤال المهم والملح هو، هل هناك بالفعل تصور لإعادة تشكيل المنطقة لدى ترمب الذي يغير مواقفه يومياً وأحياناً أكثر من مرة في يوم واحد، ويكره قراءة المطولات وبحث الأمور في العمق؟ والجواب هو أن الرجل ارتجالي وانفعالي. ففي كتاب “ذاكرة ملك” يتحدث الملك الحسن الثاني عن أيامه في رئاسة الوزراء في عهد والده الملك محمد الخامس، ويقول، “أدركت خطورة القلم في يد رئيس الوزراء”.
وفي تلفزيون الواقع الذي يدير منه ترمب سياسته بدا الرئيس الأميركي مبهوراً بقوة القلم في يده. تصور أنه يستطيع فعل أي شيء يريده من أميركا والعالم بالقلم. يستطيع تجاوز الدستور بأمر تنفيذي. يستطيع القفز من فوق القضاء. وهو أخذ وقتاً ليكتشف أن الرئيس فلاديمير بوتين يتلاعب به، وأن وقف حرب روسيا على أوكرانيا أشد تعقيداً من تصوراته البسيطة ومفاخرته بأنه يستطيع صنع تسوية باتصال هاتفي. لا بل أوحى أنه بجرة قلم يقيل رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي رفض طلب خفض الفائدة، قبل أن يعترف بأن الإقالة تحدث اضطراباً في الأسواق.
اقرأ المزيد
“تروث سوشال”… مرآة لتقلبات ترمب
ضد سايكس بيكو مع كينغ – كراين
من رفض “سايكس – بيكو” إلى الخوف على حدوده
6 نتائج كبرى لإدارة ترمب في 6 أشهر
في كتاب تحت عنوان “الخداع الكبير: صعود الطموح وهبوطه في الشرق الأوسط”، يقول ستيفن سايمون وهو مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي الأميركي إن “السياسة الأميركية في الشرق الأوسط كانت خداعاً مفبركاً في تركيب مستمر لأفكار كبيرة يصفي بعضها بعضاً بواسطة صانعي سياسة ومقتنعين بمقاصدهم النبيلة تجاه منطقة يعرفون عنها القليل ويهتمون بها أقل”.
وليس أمراً قليلاً للدلالات أن كثراً من قادة العالم باتوا يتجنبون الذهاب إلى البيت الأبيض بسبب الإهانات التي ألحقها ترمب بالقادة الذين يجتمعون به أمام الكاميرات والميكروفونات المفتوحة. فالرجل جاء إلى البيت الأبيض مع اقتناع بأن التحالفات التي بنتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية هي عبء على بلاده. وهو، في حرب الرسوم والتجارة، كان أقسى على الحلفاء منه على الخصوم. إذ “لا أحد يضاهي ترمب في إحراق الجسور” كما تقول كوري شاكي من مؤسسة “إنتربرايز” في مقال نشرته “فورين أفيرز” تحت عنوان “أميركا في ما بعد العالم الأميركي”. ومختصر ما تراه هو أن أميركا انتقلت مع ترمب من “بلد لا يستغنى عنه” إلى “بلد لا يطاق”. لا بل إن مايكل بكلي رأى أن أميركا صارت “قوة عظمى مارقة، ليست عالمية ولا انعزالية بل عدائية قوية تعمل لنفسها”.
وليس الشرق الأوسط استثناء من القاعدة في سياسة ترمب. فمن يعاقب حلفاء بلاده في أوروبا لن يعطي كثيراً من وقته للشرق الأوسط بعدما عجز على مدى أشهر عن ترتيب هدنة في حرب إسرائيل على غزة. ومن لا يمانع ضم نتنياهو للضفة الغربية إلى إسرائيل من دون اعتبار إلى خطورة ذلك على العالم العربي وحتى على سياسة أميركا ومصالحها، لم يجد حرجاً في القول إنه يريد ضم كندا وغرينلاند وقناة بنما إلى أميركا. ولولا إسرائيل والمال والنفط لترك الشرق الأوسط للصراعات الدائمة من أجل التركيز على الشرق الأقصى حيث الثروة والقوة والتنافس مع الصين. فما هي الصورة الجيوسياسية والاستراتيجية للشرق الأوسط الجديد؟ وأين يبدأ نتنياهو وينتهي ترمب؟ رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دو فيلبان يرى أن ترمب “رجل من القرن الـ19 لكنه مرتبط بناس من القرن الـ22” مع أنهم في القرن الـ21. وفي القرن الـ19 كان الشرق الأوسط عثمانياً مع نفوذ أوروبي.