ملخص
يعيش المثقفون السوريون حالاً من القلق والترقب بعد القرارت الصادمة التي أعلنتها إدارات السلطة الجديدة، فبعد قرار يقضي بإغلاق سينما الكندي العريقة مما يعني إغلاقها، برز العمل على التغيير في المناهج المدرسية وحذف صور منحوتات وتماثيل من كتب اللغة الإنجليزية، وحذف عبارة “الفكر الفلسفي الصيني” وصفحات كاملة من مقررات الفلسفة، عطفاً على عودة الرقابة الشديدة على الكتب، والموافقة السابقة قبل نشرها.
عندما سيطرت حركة “طالبان” المتطرفة على العاصمة الأفغانية كابول، كانت الوجهة الرئيسة لها تحطيم تماثيل بوذا بالديناميت، جرى ذلك في مارس (آذار) 2001، حَزن العالم لأنّ التمثالين، اللذين تحولا إلى فتات هبائي منثور، طاعنان في الزمن ومزروعان في الصخر منذ القرن السادس الميلادي، وقد مرت عليهما دول وجيوش، لكنهما ظلا شامخين كرمزين حضاريين يحرسان القوافل على طريق الحرير.
ومضت الحركة تروّج روايتها التي تهزأ بالعقل باعتبار التماثيل أصناماً، وأنّ على المسلمين أن يفتخروا بتدميرها، ثم أعقب هذا التدمير، بعد تولي الحركة زمام السيطرة، سلسلة “فانتازية” من المنع شملت الموسيقى والأغاني والصور، وممارسة الرياضة، وارتياد المتنزهات والحمامات العامة، ومنعت الفتيات من التعليم لمن تزيد أعمارهن على 12 سنة، كما منع صوت المرأة خارج المنزل، وسوى ذلك من قرارات يمكن أن تساق باعتبارها نكتة أو طرفة، مثل حظر بث صور الكائنات الحية على القنوات التلفزيونية، وهو قرار صدر العام الماضي!.
كنا نعتقد أنّ ما اقترفته “طالبان” سيكون آخر الهراءات التي ينتجها العقل في حقول الاجتماع البشري، بيْد أنّ اعتقادنا المحمول على الرجاء، لم يصمد طويلاً حتى ابتلينا بطالبانيين جدد من نسل هواة التدمير والمنع والتكميم، أسقطوا تمثاليْ حافظ الأسد وابنه بشار اللذين حكما سوريا بالحديد والنار والمعتقلات التي جرى فيها فَرم الناس والتفنن في شوائهم، لكنهم في الوقت ذاته، قطعوا رأس الشاعر أبي نواس بذريعة ترميمه، كما دمروا “تمثال الشهداء” في حلب، بحجة أنّ خطأ تقنياً وقع في أثناء عملية نقل التمثال!.
الرقابة على الكتاب تعود بقوة (اندبندنت عربية)
ومنذ فرار رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وسيطرة هيئة “تحرير الشام” على دمشق، ونحن نترقب بزوغ فجر جديد، يمنح السوريين الشمس والضياء، وبقينا نردد، لمواساة أنفسنا ربما، بأنّ أسوأ نظام في التاريخ سيكون أفضل من حكم آل الأسد، لكنّ الوقائع التي تأتينا من سوريا كل يوم بخصوص الحريات المدنية، تسمم الأبدان، لا سيما ما تعلق منها بحركة الثقافة والفن والتعليم والاجتماع، وما أنتجته تلك الحركة من رموز وكتب ومسارح وتماثيل تحتفي بانتصار العقل، وازدهار الذائقة عبر العصور.
سينما الكندي العريقة
مطلع يوليو (تموز) الجاري، أصدرت أوقاف دمشق قراراً يقضي بفسخ عقد “سينما الكندي” الكائن في حي الصالحية بالعاصمة السورية، “بهدف تحويل العقار إلى مركز ثقافي”، والمقصود تحويله إلى مركز ديني، كما يبرز السياق العام لتوجه السلطة الجديدة التي كان أول قراراتها تغيير في المناهج المدرسية، حذفت بموجبه وحدة “أصل التطور والحياة” من كتاب العلوم، واستبدال مفهوم “الشهادة” من “في سبيل الوطن” إلى “في سبيل الله”، فضلاً عن حذف صور منحوتات وتماثيل من كتب اللغة الإنجليزية، وحذف “الفكر الفلسفي الصيني” وصفحات كاملة من مقررات الفلسفة.
وبعد “سينما الكندي”، قررت لجنة حي ساروجة في دمشق فصل الذكور عن الإناث في مدرسة “اللاييك”، التي تأسست عام 1929، وتخرجت فيها نخبة من السوريين، والغريب أنّ قرار اللجنة استند إلى ما سماه “دراسات علمية!” خلصت إلى أنّ للفصل بين الجنسين تأثيراً في “تحسين الأداء الأكاديمي، وتقليل السلوكيات المشتِتة، خصوصاً في المراحل الحساسة”، والخطوة تستند إلى “مبادئ الشريعة الإسلامية”، بحسب قرار اللجنة الذي لاقى استجابة من مديرية التربية والتعليم، وسيجري تطبيقه مطلع العام المقبل.
الأمثلة على الانتهاكات أوسع من أن تحصرها مقالة، فهي تشمل كل وجوه الثقافة والفن وصناعة الكتب وترويجها وتداولها، فبعد القرار القاضي بضرورة الحصول على موافقة سابقة قبل نشر الكتب، تم منع كتب كثيرة لن تكون آخرها رواية الزميل خليل صويلح “جنة البرابرة” التي سبق أن منعها النظام السابق، حسبما أعلن صويلح على صفحته في “فيسبوك”، لافتاً إلى مفارقة طريفة تكمن في طلب الرقابة “حذف الإشارة إلى رواية “خريف البطريرك” لغابرييل غارسيا ماركيز، التي وردت في النص ضمن سياق تناول أدب الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية”، بحيث علق صويلح على ذلك هازئاً إنه “أمر لا سلطة لي عليه بعد غياب صاحبها”.
الثقافة السورية في عهد الأسدين: تجميل وجه “البعث”
شعراء سوريون واجهوا السلطة وعانوا الاضطهاد والنفي
“كما تشاء”… ملهاة شكسبير تضيء وسط الحرائق السورية
مقدمات ونتائج
قاعدة الاستدلال المنطقي تشير إلى أنّ المقدمات تقود، غالباً، إلى النتائج، لذا لو حاول باحث محايد أن يحشد المقدمات التي كشفنا عن نزر يسير جداً منها، فإنه سيصل إلى نتائج عنوانها نشر التشدّد، ومحاصرة الحرية، وتوجيه الاجتماع العام بقصد تلبية المرجعيات العقائدية والأيديولوجية، وتكليف قوى اجتماعية (ظاهرها الاستقلالية) بتولي تطبيق قرارات من قبيل تدمير التماثيل، ومهاجمة النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب، وتوجيه الدعاية التي يمتلكها النظام لمباركة ذلك بأسلوب التقية الذي يعد تقنية خبيثة من أجل التمكين.
بقي المثقفون والفنانون والنشطاء والفاعلون الاجتماعيون منذ سقوط النظام السابق، متمسكين بأنّ سوريا لن يحكمها نظام أسوأ وأشد وحشية من نظام آل الأسد، وفي ذلك تبرير نفسي يعبر عن تمنيات العقل الباطني ورجاءاته، وبقيت النخب معتصمة بمقولة تعددية المجتمع السوري وتنوع أطيافه، ورسوخ مرجعيته المدنية ذات الوجه العلماني، ما يشكل حائط صد لمنع برمجة هذا المجتمع، وجعله ينخرط في سياقات سلفية منغلقة تتعارض مع قواعد التطور الحضاري.
الثقافة ومنتجاتها ظلت عبر التاريخ المتراس الأشد صلابة، والشاهد الأكثر حضوراً لإبداع المخيلة الإنسانية، وهو إبداع ينتسب إلى روح الإنسان التواقة إلى الحرية الحقيقية، وليست الحرية المزيفة أو المغشوشة. ماذا يعني ذلك؟
يعني أنني أرى مياهاً كثيرة تعبر، بضراوة، تحت جسر المثقفين السوريين، على هيئة الزحف السلحفائي غير المحسوس، لكنه زحف يعمل بطرق شتى على منح الاستبداد لبوساً ديمقراطياً ستكون أحد مآلاته صندوق الاقتراع الذي تجري، على قدم وساق، هندسة نتائجه لتتوافق مع القواعد الانتخابية العريقة.
بعد التمكين، وفي غضونه، ستأتي المُغالبة، وما لم يتحقق في الفضاء العمومي (بالحُسنى والبروباغندا) سيُقر في البرلمان، أو ربما عبر حشود الشارع التي تتقن هذه القوى استثمارها عقائدياً، وما لا تنجح فيه الحكومة وأذرعها ستتولاه النصوص الغافية في بطون الكتب، يقول محمود درويش في قصيدته “سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا”: “أبوك احتمى بالنصوص، وجاء اللصوص”!