ملخص
الحال أننا انطلاقاً من هذه النظرة “المفاجئة” التي يلقيها هيغل على “الأمير” يمكننا أن نرى، ودائماً مع كاسيرر، أن في محاولة التوفيق التي سعى إليها هيغل في فلسفة التاريخ، اتجاهاً فكرياً من نوع مختلف. فهيغل يقبل هنا الأوضاع على علاتها، ويرى أنها تتضمن “جوهراً أخلاقياً حقاً”، بمعنى أن هيغل “لم يحاول أن يستبعد من العالم التاريخي لا الشرور ولا التعاسات ولا الجرائم”.
ذات يوم وفي بداية مقالة كتبها في عام 1801 واستنكف عن نشرها في ذلك الحين، كتب هيغل يقول “لم تعد ألمانيا دولة”. والحال أن مؤرخي فكر هيغل، ومن بينهم إرنست كاسيرر، يقولون إن هيغل كان يعيش في تلك الآونة حالاً معنوية هابطة تماماً، وسط موقف سياسي كان يلوح إليه ميؤوساً منه تماماً. وإذا كان المفكرون لا يبنون آراءهم في مثل تلك الحالات إلا انطلاقاً من المقارنة، من الواضح أن صاحب “فينومينولوجيا الروح”، قارن وضع ألمانيا الماثل تحت عينيه في تلك اللحظة، بالوضع الذي كانت تعيشه الحياة القومية في إيطاليا، بخاصة في عصر ماكيافيلي. ومن هنا كان من الواضح أن هيغل ثارت في نفسه، على ضوء قراءته لما كتبه المفكر الإيطالي ماكيافيلي عن عصره، اهتمامات جديدة وتطلعات متجددة، هو “الذي كان يحلم بأن يصبح، بحسب إرنست كاسيرر بخاصة، ماكيافيلي عصره”. وحول هذا الأمر كتب في تلك المقالة: “في أحد العصور السيئة الطالع، عندما كانت إيطاليا تركض نحو نكبتها، وعندما كانت تدور فيها معارك الحروب التي أشعلها الأمراء الأجانب، وعندما جردها الجرمان والإسبان والفرنسيون والسويسريون من كل ما تملك، وكان مصيرها في يد هذه الدول الأجنبية، قام سياسي إيطالي يتصور كيف يمكن تحرير إيطاليا من طريق اتحادها في دولة واحدة. وإنه لمن غير المعقول أن ينظر إلى هذه الفكرة التي اعتمدت عند صوغها، ويعني في كتاب “الأمير” لماكيافيلي، على مشاهدة ظروف إيطاليا، على أنها خلاصة منزهة للمبادئ الأخلاقية والسياسية التي تناسب كل الظروف والأحوال، على من يقرأ كتاب “الأمير” أن يراعي تاريخ العصور التي سبقت ماكيافيلي، وأحداث تاريخ إيطاليا التي عاصرها. ولو فعل ذلك، فإنه لن يرى وجوداً مبرراً لظهور هذا الكتاب فحسب، بل سيرى أن هذا الكتاب دل على نظرة عظيمة صادقة لعبقرية سياسية حقة تمثل عقلاً عظيماً وروحاً نبيلة”.
ماكيافيلي: ما الذي يفعله في عوالم هيغل (غيتي)
اتجاه توفيقي
الحال أننا انطلاقاً من هذه النظرة “المفاجئة”، التي يلقيها هيغل على “الأمير”، يمكننا أن نرى، ودائماً مع كاسيرر، أن في محاولة التوفيق التي سعى إليها هيغل في فلسفة التاريخ، اتجاهاً فكرياً من نوع مختلف. فهيغل يقبل هنا الأوضاع على علاتها، ويرى أنها تتضمن “جوهراً أخلاقياً حقاً”، بمعنى أن هيغل “لم يحاول أن يستبعد من العالم التاريخي لا الشرور ولا التعاسات ولا الجرائم”. لقد اعتبر “كل هذه الأمور مسلماً بها، لا تبدو الشرور من وجهة نظر الفكر التأملي وقائع عرضية أو ضرورات قاسية. هي ليست بالشيء المعقول فحسب، لكنها تمثل العقل في حال تجسمه وتحققه بالفعل”. ويقيناً أن هذا النوع من الفكر يتجلى بأفضل أشكاله عند دراسة هيغل “أصول فلسفة الحق”، في كتابه الشهير الذي يحمل هذا العنوان بالتحديد. وهو الكتاب الذي وضعه في عام 1818، ويعتبر من أشهر كتبه وأكثرها تعبيراً عن أفكاره، ولا سيما عن نظرته إلى فكرة الدولة. وكان “أصول فلسفة الحق” آخر كتاب صدر لهيغل خلال حياته، وهذا الكتاب الذي يعرف أحياناً بـ”فلسفة القانون” يقول بوزانكويت، أحد كبار دارسي هيغل، أنه كتاب “ربما يكون قد أسيء فهمه أكثر بكثير مما أسيء فهم أي كتاب آخر من كتب الفلاسفة السياسيين العظام، إذا استثنينا جمهورية أفلاطون” (وننقل هنا عن دراسة المفكر المصري إمام عبدالفتاح إمام للكتاب نفسه). بالنسبة إلى هيغل نفسه، من الواضح أن ما في هذا الكتاب يتجاوز كلياً ما قد يوحي به عنوانه، إذ يقول “حين نتحدث عن الحق في الكتاب، فإننا لا نعني به فحسب ما يفهم عادة من هذه الكلمة، أعني القانون المدني، لكننا نعني به أيضاً، الأخلاقية والحياة الأخلاقية وتاريخ العالم، وكلها تندرج ضمن الموضوع الذي نبحثه”.
تطوير لكتاب سابق
في الأصل كان كتاب “أصول فلسفة الحق” أشبه بتطوير جملة أفكار حول كل هذه الأمور، بخاصة حول مبادئ الحق، كان هيغل أوردها العام السابق في كتابه الذي ظهر تحت عنوان “موسوعة العلوم الفلسفية”. ويتضح من فصول هذا الكتاب أن ما يدعوه هيغل هنا بـ”الحق”، ليس تحديداً الحق المجرد الذي ابتدعه الرومان، ولا الحق الطبيعي، بل “وجود الإرادة الحرة”، وفي شكل أكثر وضوحاً “الحرية وقد وعت ذاتها”. وما حق شخص ما، في رأي هيغل، سوى لحظة في صيرورة هذه الحرية. وبالمعنى الذي يتوخاه هيغل أيضاً، تمكن موضعة الحق في صلب “تاريخ الروح”. وهذا الحق يكون، في البداية “ذاتياً”، حين يعي نفسه في صورة تدريجية عبر الطبيعة، ثم يتحول ليعثر على اكتماله في الإرادة التي تصنعه، بالتحديد، في مواجهة الطبيعة. ثم يتحول ثانية ليصبح “موضوعياً”، إذ يواصل في الطبيعة نفسها، التي يحولها تبعاً لصورته عنها، تحقيق إرادته. من هنا، فإن الحق يتماهى مع تلك الروح، أو العقل، لأن الاثنين في نهاية الأمر، واحد عند هيغل – الجماعي، الذي هو أساساً روح تاريخي، مصيره هو مصير الإنسان نفسه. ويرى هيغل في هذا الكتاب، أن الحق يتحقق على ثلاث لحظات: كحق مجرد، وكأخلاقية ذاتية، وأخيراً كأخلاقية جماعية. وهيغل لتفسير هذا كله يكرس، لكل لحظة، جزءاً من هذا الكتاب الضخم. والحقيقة أن قراءة هذه الأجزاء الثلاثة تفيدنا، وتعود هنا لـ”أمير” ماكيافيلي كما قرأه هيغل، بأن الهم الأساس الذي يحكم هذا النص، إنما هو هم الدولة.
نحن وهيغل: من الصراع العرقي إلى الاعتراف المتبادل
عندما اعترف كانط بأن مادة المعرفة تأتي عبر الحواس والتجربة
السفسطائيون فلاسفة حقيقيون افترى عليهم أفلاطون فأنصفهم هيغل
الدولة في صورتيها
وفي السياق نفسه على أية حال، يرى ميخائيل أتوود في كتابه “معجم مصطلحات هيغل”، الذي ترجمه إمام عبدالفتاح إمام إلى العربية، وصدر عن “المجلس الأعلى للثقافة” في مصر ضمن المشروع القومي للترجمة، ويمكن اعتباره من أفضل المراجع التي يمكن قراءة هيغل عبرها، يرى أن هيغل يستخدم كلمة الدولة بمعنيين، أولهما “المدينة” Polis، وثانيهما “الدولة في مقابل الجوانب الأخرى من المجتمع، لا سيما الأسرة والمجتمع المدني”. لكن الكاتب يستدرك هنا قائلاً إن “هذين المعنيين مرتبطان، من حيث إن كياناً ما يكون دولة بالمعنى الأول إذا كان دولة بالمعنى الثاني”. ويتوسع هيغل نفسه في شرح هذا كله، حين يوضح أن “بعض السمات المركزية للدولة تعتمد على تقابلاتها مع: أولاً، الحق المجرد، حيث الدولة تحمي حقوق الأشخاص، غير أن هذا لا يكون كما افترض من أن هذا هو الهدف الرئيس الوحيد للدولة. ثانياً، لا يجوز تقويم الدولة وأفعالها بناء على معايير الأخلاق الفردية. وثالثاً، في مقابل المجتمع المدني، للدولة وحدة يمكن أن تقارن بوحدة العائلة، لكنها لا تقوم كما تقوم الأسرة على الحب والشعور: في الدولة تختفي هذه، أي الحب، فنحن نكون على وعي بوحدة القانون. هنا، في الدولة، يجب أن يكون المضمون عقلياً ومعروفاً لنا”. ومن هنا، يضيف هيغل في “أصول فلسفة الحق”: “الدولة، في مقابل الأسرة والمجتمع المدني، ترتبط بالوعي الذاتي. الدولة تتماسك ويرتبط أعضاؤها، لا من طريق القوة، بل من طريق الإحساس بالنظام، وتلك هي الوطنية الأصيلة”.
عودة للتاريخ الكوني
وهيغل يختتم صفحات كتابه هذا بالحديث، كاستنتاج، عن التاريخ الكوني الذي هو بالنسبة إليه “التطور الضروري للحظات العقل، لوعي الذات، ولحرية الروح، وتفسير الروح الكوني وتحققه”. وفي هذا الإطار يرى هيغل أن التاريخ عرف إذاً أربع إمبراطوريات هي: الشرقية والإغريقية والرومانية والجرمانية، لكنه يضيف “الشخصية الفردية التي ظهرت في الإمبراطورية الثانية، جابهت، في الثالثة، تمزقات التعارض بين الوعي الشخصي الخاص وبين الكونية المطلقة. ومن هنا فإن المصالحة لا تزال في حاجة إلى أن تتحقق داخل الوعي الجماعي، بمعنى أن المبدأ الشمالي لدى الشعوب الجرمانية هو الذي سيكون من مهماته تحقيق هذه المصالحة”! ويعتبر كتاب هيغل هذا، ودائماً، تتويجاً لعمل فكري دؤوب ومنتظم، أنتج للفكر الإنساني بعض أمهات المؤلفات في مجال الفلسفة، مما جعل جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770 – 1831) يعتبر إلى جانب مواطنه كانط، واحداً من اثنين أسهما في ولادة الفلسفة الحديثة، بل إن ثمة من يقول إن الفلسفة العقلانية إذا كانت ولدت مع أرسطو / أفلاطون، فإنها اختتمت تاريخياً مع هيغل / كانط.