بيروت والبحر بريشة أمين الباشا (صفحة الرسام – فيسبوك)

في الرواية الرابعة لها، والصادرة حديثاً عن دار النهضة العربية (2024)، بعنوان “العرجون اللجين”، تسلك الكاتبة اللبنانية لينا كريدية مسلكاً مفارقاً مألوفها، وتنسج بخيوطٍ متعددة التلاوين والأبعاد سردية ذات رمزية  خاصة وقد نقول جريئة، وتسعى إلى بناء عالم موازٍ، أو حيّز موازٍ يقابل عالماً سابقاً، أو يردّ على بعض أجوائه، ويوقظُ بعض علله وإخفاقاته عبر الازمنة ، وشجونه، وتساؤلات رجاله ونسائه، على ما يأتي لاحقاً.

تدور أحداث بل وقائع الرواية على شخصية محورية (مختلقة) هي اليهودي اللبناني إبراهام (أو إبراهيم) عزرا دافيد، ولا يزال يروي بعضاً من سيرته ورؤاه، غداة وفاته وتعلّق روحه بمرآة يهودية، ريثما يتطهّر من أخطائه وخطاياه في حياته السابقة، ليرتقي من ثمَ، نقياً وخالصَ الانتماء والدين والتقوى، إلى السماء الموعودة.

وفيما يحتسب إبراهام خطاياه، ويعترف بها تباعاً، تختلط لديه الأمكنة والأزمنة، والشخصيات، في عمليات ارتجاعية تخالطها نظريات ورؤى غريبة، مستقاة من التراث السردي العربي واليوناني والشرقي، تحمّلها الكاتبة أبعاداً سياسية واجتماعية ودينية وحتّى جندرية، يتكوّن شبه عالم روائي هيولاني، معادلٌ لخطابٍ فكريّ، بل هو الخطاب الفكريّ مرمّزاً وموضوعاً في رواية فانتازية وذات صدقية ورواء.

سقوط الأقنعة 

أولى المسائل -المشاهد التي تعالجها الكاتبة، الهوية الملتبسة أو زيف الهوية الذي يتّقي به الشخص من شرّ الموت أو الاضطهاد أو العزل، في بيئة تضع انتماء الفرد إلى الجماعة أولوية مطلقة، وتصنّف الجماعات وفقاً لمزاج سائد عام، غالباً ما يكون طائفياً أو قومياً أو كليهما؛ وكذا هو إبراهام المتوفي، الذي يعترف لمن هو أمام المرآة، أي القارئ، بأنه كان لبنانياً يهودياً في انتمائه الصميم، ولكنّه تلبّس لبوس المسيحيين الأرثوذكس، في حياته، ليحظى بشرعيّة ما تقيه جور الأحكام الجماعية القاتلة. وكيف لا يُطلق لسان إبراهام من عقاله، وقد حرره الموت ونزع عنه الأقنعة، ومنها قناع الأرثوذكسية.

“الأهمّ من ذلك كلّه أنني تحرّرتُ من الأقنعة والكذب… فأنا يهوديّ ولكنني لبنانيّ. خفتُ أكثر يوم توفّي فيه جمال عبدالناصر (28 أيلول/ سبتمبر 1970) حين خرجت الجماهير اللبنانية حزينة وغاضبة تهتف بالموت لليهود” (ص5-6).

وعلى هذا فإنّ لعبة المرايا، التي حلّت بديلاً من لعبة الأقنعة، في الرواية، تشكّل استراتيجية سردية كبرى، سوف تعتمدها الكاتبة لبناء رؤيتها المشار إليها سالفاً. ومثل ذلك، سوف تكون لعبة المرايا معيناً على التشكيل السردي الموشّح بقدر من الفانتازية والرمزية، يتفاوت بتفاوت الموضوع أو الموتيف المعالج في كلّ مشهد، من المشاهد الواحد والعشرين (21)، على هيئة مسألة أو قضية تجري مناقشتها بالمناسب من الأدلة والبراهين والشواهد المفنّدة والمبيّنة على حدّ سواء. وبالتالي، سوف يكون على القارئ أن يتأنّى لدى النظر في معاني كلّ نوع من المرايا، على امتداد الرواية القصيرة نوعاً ما (115 صفحة)، وفقاً للسياق الذي ترد فيه، على النحو الذي نفصّله لاحقاً.

اعتراف وتعرية 

يمكن القول إنّه ليس من حبكة رئيسية في الرواية. وإنما انفتاح لمسلسل اعتراف طويل يدلي به إبراهام اليهودي وقد نزع، بعيدَ وفاته، قناع المسيحية، ومن ثم قناع العروبة، وقناع التعايش، وغيره، ثمّ يطلق عمل المرايا من عقالها، كشفاً للحقائق، وبسطاً للسرائر والأسرار التي لطالما ضاق بها إبراهام بن عازر، وحان وقت الكشف، عبر لعبة المرايا، والقفز عن الأزمنة، باعتبار الراوي عليماً، وناطقاً باسم الحقيقة المخبّأة، والمطلوب إعلانها وإن بلسان طيف؛ فعلى سبيل المثال، يعود الراوي، أو من يُفترض به أن يكون إبراهام، وقد تقلّد مرآة الحقيقة المقتبسة من “بياض الثلج”، إلى حقبة الجاهلية الأخيرة، العام 525، عام ولادته (!) فيكشف عن حقيقة العرب المرّة، وهي الاقتتال في ما بينهم، في حرب داحس والغبراء، والكراهية بين النفوس، واندثار أمجاد قبيلة غطفان، والملك النعمان بن المنذر، وشعر الفروسية وعنترة بن شداد، فإذا كلّ ذلك “ستارة للعزّ بالإثم والغرور والنرجسية والعصبية” (ص13)

وتتابع الكاتبة تعريتها سردية العرب، بل أيّامهم (معاركهم) القديمة، حتّى بعد الإسلام، وإبان العصر الأموي إذ تُرجع مرآة الحقيقة، المعلّق بها إبراهام، القرّاء إلى زمن الأمويين فتبيّن، بنوع من البانورامية التأريخية الموجزة، كيف أنّ العرب أدمنوا التقاتل والتآمر بعضهم على بعض، شهوةً لـ”كرسيّ الملك والمناصب والذهب الكثير” (ص19). حتّى يقول إبراهام ما يُعدّ خلاصة لحياة العرب على امتداد عصورهم: “السيناريو ذاته يتكرر بوجوه عديدة. وفي كلّ حياة عشتها استمرّ العرب على المنوال نفسه مع تعديلات طفيفة…” (ص21).

مسائل ومناظرات 

وبينما يأنس القارئ إلى نبرة الاعتراف، مشوباً بتعرية الجماعة التي ينتمي إليها إبراهام – اللبناني العربي اليهودي، بحسب تصنيف الكاتبة، تجعل شخصيتها أو بطلها الواعد، وإن ميتاً، يؤدّي لعبة المرايا، فيتخذ له واحدة مهداة من “فولكانوس لزوجته الحبيبة فينوس” (ص33)، من أجل أن يعرض، من خلالها، للأهوال التي كابدتها النساء، زمن السلاطين والمجاعة مروراً بسجلّ الآلام التي عانتها أمّ الراوي “وردة” من جرّاء خيانات والده لها، وصولاً إلى إقراره بالخيانة التي اقترفها حيال النساء اللواتي أحببنه، ربما لقلة نضجه الجنسي. ولا ينجز تحرره الجنسي إلا حالما تطأ قدماه باريس، ويبدأ باكتشاف النساء والإكثار من علاقاته معهنّ إلى أن يصيبه السأم والحيرة حيال الارتباط بامرأة واحدة. إلاّ أنّ حواراً دار بين عقوله الثلاثة – في كناية عن ثلاث وجهات نظر منطقية ومعللة- خلُص فيه إلى اختيار عدم الزواج، والبقاء عازباً، حلاً أنسب للإبقاء على حرّيته التي عاش من أجلها.

“وأنا كنتُ خائناً لنسائي، خنتهنّ جميعاً. حينَ وصلتُ إلى باريس كنتُ في أوج تألّقي كشابّ في العشرينيات من عمره… وأعرف جيداً كيف أجعل نفسي مرغوباً وجذّاباً، وعلى الطريقة اللبنانية بفذلكتها وأناقتها…” (ص36).

وقائع وقضايا 

لا أرى لزوماً لتكرار أن رواية “العرجون اللجين”- وتعني الغصن الفضّي- تكاد تخلو من السرد، ولا حبكة رئيسية فعلية فيها، سوى أنها استعراض لقضايا يبسطها الراوي العليم، عنيتُ به إبراهام عزرا دافيد، أو من ينوب عنه من مرايا هي منابر لقول الحقّ؛ ومن تلك القضايا ما تعلله الكاتبة في فصل عنوانه “فضيلة الوهم”، وفيه تبيّن بالشواهد والوقائع والأعمال الأدبية المحال عليها (أليس في بلاد العجائب) أنّ الإيمان بالقومية والعروبة لا يكاد يشغل قلوب فئة قليلة من الناس، ومنهم نبيل، المهندس المعماري الذي يعرفه الراوي، ويرثي لحال أترابه الذين كانوا يؤمنون ما يؤمن به، فمنهم من مات وأكثرهم من انحرف إلى الصلاة، أو الإدمان على حشيشة الكيف، و”تقوقعوا في الزوايا خشية الموت” (ص46).

 

وفي السياق نفسه، تنقّل الكاتبة مرآتها، أو كاميرة الحقيقة خاصّتها، نحو واقع حكم العسكر في البلدان العربية، في فصل عنوانه “اثنا عشر ملكاً بدل ملكٍ واحد” في كناية عن أربعة عشر ضابطاً مصرياً ممن سموا أنفسهم بالضبّاط الأحرار، والذين أطاحوا بالملك فاروق عام 1952، ولم يلبث بعضهم أن انقلب على البعض الآخر، في ما يشبه الحلقة الجهنمية الماثلة في مسرحية “عشرة عبيد صغار” لأغاتا كريستي.

ومن ثمّ تعود الكاتبة، في الفصل اللاحق، بعنوان “أغاثا تعود إلى جزيرة العبيد” (ص55-64) لتواصل مناقشة صوَر الحاكم المستبدّ في البلدان العربية، وكيف أنه يستبيح ثروات البلاد، ويتصرّف ببشرها وحجرها، وكلّ ثرواتها وكأنها ملكية مصكوكة له وحده، ولذرّيته من بعده، من دون سائر العباد والرعايا، لا المواطنين.

رؤية بانورامية 

إذاً، يمكن القول إنّ الرواية، وإن برز نمط التفسير فيها، بسبب ميلّ الكاتبة الجارف إلى تعليل رؤيتها الديستوبية إلى الواقع الذي تحياه شخصيتها النموذجية، إبراهام عزرا دافيد، والذي يمكن ان يكون رمزاً ممثلاً لحياة الفرد في العالم العربي، حيث القمع والزيف والاستبداد غالبة، فإنّ أساليب أخرى صنعت الرواية وحققت امتدادها الدلالي؛ ليس أقلّ هذه الأساليب الحوارات التي دارت بين الشخصية الرئيسية وشخصيات مستعارة من عالم الكتابة (أغاتا كريستي، مثلاً،) أو من عالم الكاتبة الحقيقي (نبيل)، أو الحوارات بين المرايا المختلفة (المرآة اليهودية، ومرآة إبراهام)، وباختلاف الموضوعات المعالجة، أو الحوارات بين العقول التي أشرنا إلى وظيفتها في الدلالة على اصطراع الأفكار ووجهات النظر في ذهن الراوي نفسه.

في ما سعت إليه الكاتبة لينا كريدية بروايتها الرابعة “العرجون اللجين” خلط الواقع بالمتخيّل، وخلط الحقائق بالأسطورة المعادلة لها، أفلحت في تشكيل فانتازية خفيفة وكافية لبسط رؤيتها الفكرية والسياسية والإنسانية، على ما ذكرنا. وهي خلطة، وإن افتقدت إلى الهيكل السردي الكافي، فإنها تركت القارئ العربي برفقة شخصيات من الأساطير والآلهة، أمثال: آلهة الحب، والحرب والزراعة، مارس، وفينوس، وآلهة الشر ميدوسا، وأريشكيجال، واسموديوس، وغيرهم. والبقية تأتي، على ما عوّدتنا الكاتبة.