في انتظارِ الضربةِ الصاروخية

“والآن… إذا لم يأتِ البرابرة، ماذا سيحدثُ لنا؟ فقد كانوا نوعًا من الحلّ”- قسطنطين كفافي (1863-1933).

لخمسِ ليالٍ لم يناموا، يصطفُّونَ بطوابيرَ طويلةٍ أمامَ كوَّاتِ الأفران، يحتشدونَ، كما في يومِ الحشرِ، بانتظارِ توزيعِ مخصَّصاتِهم من عبواتِ السكَّرِ والطحينِ والأرُز! تصلُ أعدادُهم في ساعاتِ الذُروةِ إلى الآلافِ المؤلَّفة، حتَّى إنَّ الحراسَ المُدججينَ بالسلاح، المكلَّفينَ بمراقبةِ عملياتِ البيعِ والشراء، يضطرُّونَ في أغلبِ الأحيان، للتدخُّلِ الفظِّ، واستخدامِ حرابِ بنادقِهم كعُصيٍّ مدبَّبةٍ لتنظيمِ الدور. جميعُهُم يريدونَ الحصولَ على المزيدِ والمزيدِ والمزيدِ منَ الخُبز، يكدِّسونَهُ في بيوتِهم، وكأنَّهم لا يصدِّقونَ أنَّهُ سوفَ يكونُ متاحًا لهم بعدَ اليوم. لماذا؟ هل كانَ الطحينُ مفقودًا؟ هل كانت هُناكَ مجاعة؟ أم أنَّ مجاعةً عامَّةً ستحِلُّ بالبلادِ، وسيتضوَّرُ الناسُ جوعًا في الأيامِ القريبةِ القادمة؟

نعم.. فالضربةُ الصاروخيةُ قادمة.

***

ملؤوا بالماءِ كلَّ ما لديهم من زجاجاتٍ وقطارميز

وطناجرَ ألمنيوم بلا أغطية

وعبواتٍ بلاستيكيةٍ فارغة.

***

يقولُ صديقي، صاحبُ محلِّ (كشمير) لبيعِ الأزهارِ في حيِّ الصليبة، السيدُ (ط. ج)، الذي يرسلُ معكَ دائمًا عندما تُنهي زيارتَكَ لدكانِه الصغير، في حيِّ (الصليبة)، عودًا صغيرًا من الزنبقِ البلديِ الفوَّاحِ لزوجتِكَ: “إنَّ أُمَّهُ، واللَّـه واللَّـه، عبَّأت بالماءِ، كلَّ ما في البيتِ من فناجينِ القهوة!”. ومَن أنتَ حتَّى تُشكِّكَ في كلامِه؟

يبحثونَ عمَّا يتوفَّرُ هنا وهناكَ من آبارِ مياهٍ جافَّةٍ غالبًا، كانوا قد أهملوها دهرًا، حتَّى إنَّهم سبقَ وطمروها جميعَها، عندما استبدلوا بيوتَهم الجميلةَ القديمةَ بأبنيةٍ بائسةٍ ذاتِ عدَّةِ طوابق، تتَّسعُ لهم ولأبنائهم وأصهارِهم وأحفادِهم على شرطِ أن يحملوا أسماءَهم القديمةَ ذاتَها، الآن يُنظفونَها ويركِّبونَ على فوَّهاتِها مضخَّاتٍ يدويةٍ صدئة.

غسلت زوجتي بصعوبةٍ بقايا زيتِ الزيتونِ، داخلَ ثلاثةِ بيدوناتٍ بلاستيكيةٍ كبيرةٍ بيضاءَ حائلةٍ إلى اصفرار، كانت متروكةً في زاويةِ شُرفةِ المطبخِ منذُ سنتينِ أو أكثر، وملأتها بالماء. كما أنَّها ملأت، تَبعًا لنصيحةِ إحدى جاراتِنا، مَغطسَ الحمَّام. الذي تعادلُ طاقتُهُ التخزينيةُ نِصفَ مترٍ مُربعٍ من الماءِ غيرِ الصالحِ للشربِ بالتأكيد، ولا حتَّى لتسبيعِ الصحون والملاعق، وكأنَّنا في الأصل، كنَّا قد ابتعناهُ بغيرِ قليلٍ من المال، وركَّبناهُ في الحمَّام، خِصِّيصًا، كي نستخدمَهُ كخَزَّانِ مياهٍ في مثلِ هذهِ الأحوالِ الصعبة، ذلكَ أنَّنا يومًا لم يتح لنا أن نملأَهُ بالماءِ الساخنِ ونغطسَ بكاملِ أجسامِنا التعبةِ فيهِ، ما عدا الرأسَ الذي نُبقيهِ طافيًا وسَطَ فُقاعاتِ الصابونِ السائلِ والمعطَّرات، كما نراهم يفعلونَ في الأفلامِ السينمائيةِ القديمة، على وجهِ الخصوصِ، فنحنُ كجميعِ مَن لَديهِ في حمَّامِهِ هذا النوعُ الرائعُ منَ المغاطسِ، نستحمُّ ونحنُ وقوفًا بداخلِه: “كيفَ سنستحمُّ الآن؟” صحتُ بها غاضبًا. فلم تجِد أنَّ احتجاجي الشديدَ هذا يستحقُّ منها أن تجيبَ، ولو بكلمةٍ واحدة.

يقالُ إنَّ موظَّفي مؤسسةِ المياهِ سيكفُّونَ عن الذهابِ لأماكنِ عملِهم والقيامِ بوظيفتِهم؟ وبالتالي سيتوقَّفُ تزويدُ المدينةَ بما تحتاجُهُ من الماء؟ وهناكَ شائعاتٌ تقول، إنَّهُ سيجري تخريبُ خطوطِ شبكةِ مياهِ الشُربِ المكشوفةِ للعيانِ عشراتَ الكيلومترات؟ كما أنَّهُ منَ المتوقَّعِ أن تُقصفَ خزاناتُ المياهِ العامَّة، بسببِ كونِها قائمةً فوقَ المواقعِ الأشدِ ارتفاعًا في المدينة؟ فهل سيحلُّ الجفافُ، ويموتُ عطشًا الرجالُ والنساءُ والأطفالُ والأبقارُ والخِرافُ، أمَّا القططُ والكلابُ فستتدبرُ أمرَها؟

نعم.. فالضربةُ الصاروخيةُ على الأبواب.

***

يستطيعُ البشرُ والدوابُ

العيشَ في غِنىً عن أشياءَ كثيرةٍ

ولكن ليسَ من دونِ ماء

من دونِ ماء

تيبسُ الأرض

تجُفُ الضروع

ويموتُ العُشب

حتَّى الطيورُ والقططُ والكلابُ الواسعةُ الحيلةِ

فسوفَ يصعُبُ عليها

أن تتدبَّرَ أمرَها؟

***

يستيقظونَ باكرًا ما أمكنَهم، يهبُّونَ إلى الأسواق، ليتبضعوا، حسبَ قدراتِهم، فكلُّ شيءٍ باتَ باهظَ الثمن، ما يتوفَّرُ من وقودٍ وكحولٍ وفحمٍ وعرجونِ الزيتونِ وشموعٍ ومصابيحَ بأنواعِها وعلبِ كبريتٍ وبطارياتٍ صغيرةٍ جافَّةٍ وأُخرى كبيرةٍ سائلة. فقد خبروا سابقًا انقطاعَ الكهرباءِ لساعاتٍ طويلة، ومرَّاتٍ انقطعت لأيام، واعتادوا على ذلك. ولكن، هذهِ المرَّة، ستنقطعُ الكهرباءُ، فلا إنارةَ ولا غسَّالةَ، ولا ثلَّاجةَ ولا تبريدَ ولا تدفئةَ ولا تلفزيون ولا إنترنت ولا هاتفَ، ولا حمَّامَ أيضًا.. لأسابيعَ، ورُبَّما لأشهُر.

أمَّا الفقراءُ

فسيكتفونَ بنورِ النهارِ

الذي يعملُ على كهرباءِ اللَّـه.

***

الذينَ يسكنونَ في محيطِ المرفأ، أو مقابلَ شاطئِ البحرِ الذي يحاصرُ المدينةَ من جهتَي الجنوبِ والغربِ، بدؤوا بنقلِ عائلاتِهم إلى بيوتِ أقاربِهم في الأحياءِ الداخلية. ولكنَّ بعضَهم ممَّن يسكنُ في الأحياءِ الداخليةِ البعيدةِ عن شاطئِ البحر، صعدَ بأطفالِهِ إلى القُرى في الجبل. نعم… خوفُهم، ليسَ على بيوتِهم ومُمتلكاتِهم، بل على حياتِهم، والذينَ لديهِم أطفالٌ، همَّهُم الأكبر، بل همَّهُم الأوحد، هو حياةُ أطفالهم.

***

يصومونَ ويصلُّونَ ويبتهلونَ إلى اللَّـه، في الجوامعِ والكنائسِ وعندَ المزارات، وفي إن لم يكن هناك، لا ردَّ لمشيئتِه، ولا مفرَّ من قضائه، أن يخفِّفَ من بلائه، وأن يجعلَهُ عابرًا، وأن يكونَ صحيحًا أنَّهم لا ينوونَ سوى ضربِ الأهدافِ العسكرية، وأنَّ أنظمةَ الصواريخِ الحديثة، تتمتَّعُ بذلكَ الذكاءِ الخارقِ الذي يتحدَّثونَ عنه، بحيثُ أنَّها تصيبُ أهدافَها بدِقَّةٍ متناهية، فلا تحيدُ عنها إلّا بمسافةٍ طفيفةٍ لا تزيدُ عن خمسةِ أذرعٍ. سيحرِصونَ على أن يبقوا بعيدينَ عن تلكَ الأهداف، بشرطِ أنَّهم يعرِفونَ أماكنَها، مهما كانت وأينما كانت، مئاتِ وآلافَ الأميال.

***

أمامَ شاشاتِ التلفزيونِ ليلًا ونهارًا، يقلِّبونَ المحطَّاتِ، الواحدةَ تلوَ الأخرى تلوَ الأخرى، يتابعونَ الأخبارَ والتحليلاتِ والتوقُّعات، ومع كلِّ فكرةٍ يسمعونَها أو مشهدٍ يرونَه، يقلِّبونَ أفكارَهم وخيالاتِهم ومشاعرِهم، عمَّ عساهُ يحصلُ لهم؟ وماذا يستطيعونَ أن يفعلوا إذا حصلَ هذا؟ أو حصلَ ذاك؟ أو حصلَ هذا وذاك؟

نعم… فالضربةُ الصاروخيةُ على الأبواب. وواجبُ الناسِ أن يتوقَّعوا دائمًا أسوأَ الاحتمالات، وقد خبروا في حياتِهم الماضية، والراهنة، أنَّ أسوأَ الاحتمالاتِ هيَ التي تقع دائمًا! وواجبُهم أيضًا، مهما بلغت درجةُ استحالتِها ولا واقعيتِها، أن يضعوا لها حُلولًا واقعيةً وسهلةً عليهم، ما أمكنَهم.

***

يحيونَ في حالةٍ، يصُحُّ وصفُها بالجنونية. أو، بتشخيصٍ أدق، بالانفصامية! لكنَّهم رَغمَ هذا، ورُبَّما بسببِه، أو بسببِ ما يُقاسونَهُ مُنذُ ما باتَ يقاربُ الثلاثَةَ حِقبٍ، مُنذُ أن بدأتِ الأحداثُ الداميةُ في بلادِهم، أو رُبَّما بسببِ ما كان يُقاسونهُ السوريونَ جميعُهم من دونِ تفريق، طوالَ نصفِ قرنٍ من الزمن، أمضوا به معظمَ حيواتِهم، يسألونَ أنفُسَهم، ويسألونَ العالمَ، ويسألونَكم أنتم، مَن كنتُم، وأينما كنتُم، ومع أيِّ طرفٍ تقفون، وأيَّ إلهٍ من الآلهةِ الزرقِ والحمرِ والصفرِ تعبدون:

أما حانَ الوقتُ أن يعرجَ الألم؟

أما حانَ الوقتُ أن يتمَّ الموت؟

أما من نهايةٍ مجاورةٍ للشقاء

تتبعُها بدايةٌ للتعافي؟

أما حانَ الوقتُ

لوقفِ اندلاقِ الدمِ

والبَدءِ بطبابةِ الجُرح؟

أما آنَ الأوانُ لأن تُقرعَ

أجراسُ اللَّـهِ في السماءِ

مُعلنةً معادَ السوريينَ إلى أرضِهم الميعاد؟.

***

نعم.. يا لها من بَلوى، يا لها من كارثة! أن تُضربَ اللاذفيةَ بالقذائفِ الصاروخية! أن يُفجَّرَ مرفؤها، ثغرُها المبتسم، أن يُخرَّبَ مطارُها العائلي، أن تتهدَّمَ أسوارُ قلعتِها التي بناها، الملكُ الناصرُ صلاحُ الدين، أن يصيرَ حُطامًا على الأرض، قوسُ نصرِها. أن يقع ضحيَّةَ هذهِ الضربةِ أو تلكَ، رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ، لا علاقةَ لهم بأيِّ طرفٍ، ولا مصلحةَ لهم بأيِّ حربٍ؟ أن تصعَدَ أرواحٌ أخرى زرقاءُ إلى عنانِ السماء، وتلتحقَ بمئاتِ الألوفِ من الأرواحِ التي سبقتها وصعدت ممزقةً َقلوبَ أُمُّهاتِهم وآبائهم. سورية ليستِ من أملاكِ خليفةِ أو أميرٍ أو للقيصر، كم مرَّةً علينا أن نقولَ ذلكَ حتَّى نُصدِّقَه؟ فلا هيَ من عدادِ نسائِهِ، ولا هي من أفرادِ عائلتِه، أو من أولادِ حارتِه، أو، حدثَ وكانت من رفاقِ صفِّه، ولا أيضًا من عطاياه! والصواريخُ الأميركيةُ ليست مجرَّدَ كلماتٍ تسمعُها على شاشاتِ المحطَّاتِ الفضائية، أو ألفاظٍ تخرجُ من أفواهِ بعضِ الحمقى من الناس، الصواريخُ ليست ألعابًا نارية، بل إنَّها، مهما جمَّلتُها، وخفَّفتُ من عواقبِها، ستؤدِّي إلى كارثةٍ وطنية، بل إلى مأساةٍ إنسانية. لا أظنُّ شعبًا من شعوبِ الأرضِ يُرضيهِ، فما بالُكَ، يسعدُه، أن تُقصفَ وتُدمَّرَ بلادُه، أليست هيَ الأماكنَ الأليفةَ التي أمضى فيها السوريونَ حياتَهم، ولِدوا، وترعرعوا، ووعَوا ما أمكنّ لهم أن يعوا في مكانٍ داج وضيقٍ ومغلقٍ كهذا، وأحبُّوا، وأنجبوا، والتقطوا صورَهم، وصنعوا ذكرياتِهم؟ ماذا يدفعُ بعضُهم لأن ينتظروا شيئًا كهذا؟ وكأنَّهم، بقدرِ ما يخافونَهُ ويهربونَ منه، يطلبونَهُ ويتمنونَهُ ويمضونَ راكضينَ، لا يلوونَ على شيء، باتجاهِه؟ أيمكنُ للسوريينَ أن يكونوا على هذا القدرِ من ضمورِ العاطفة وانعدامِ الإحساسِ؟ أيمكن للسوريينَ أن يصلوا إلى هذهِ الدرجةِ من الأنانيةِ والنكرانِ؟ تُرى ماذا حدثَ لهم؟ ماذا أصابَهم؟ ماذا أوصلَهم إلى هذا الحدِّ من الجحود؟ من رمى بهم إلى هاويةِ هذا اليأس؟ وكأنَّ لسانَ حالِهم يقول، ما يكادُ يطابقُ الكلماتِ ذاتَها التي أنهى بها الشاعرُ الإسكندري قسطنطين كفافي (1863-1933) ذاكَ الذي أيضًا ولِد، وترعرعَ، وأغرمَ، وأفسدَ حياتَه، وكتبَ 155 قصيدةً صغيرةً، وماتَ، ودُفنَ في الإسكندريَّة، قصيدتَهُ الشهيرةَ: (في انتظارِ البرابرة):

ماذا سنفعلُ إذا البرابرةُ نكثوا بوعدِهم

ولم يأتوا؟

ماذا سنفعلُ إذا تراجعوا عن تهديدِهم

ولم تقع الضربةُ الصاروخية؟

ليسَ حبًّا بالأعداءِ

ولا خيانةً للوطنِ

ولا تنكُّرًا لحليبِ الأُمَّهاتِ

الدافئِ والكاملِ الدسم

ولكن رُبَّما البرابرة

انتبهوا إلى رُبَّما

رُبَّما الضربةُ الصاروخية

نوعًا من الحلّ؟