من ناحية مبدئية يمكن اعتبار يوم 16 يونيو (حزيران) 1904 يوماً عادياً قد لا يعني أحداً. فلا هو يوم عيد وطني أو يوم ذكرى معينة ولا هو تاريخ لعيد ديني. ومع هذا ثمة في هذا العالم كثر من الناس موزعون على عدد كبير من البلدان والملل والطوائف والأجناس يعتبرون ذلك اليوم وفي كل عام يوماً جديراً بالاحتفال.

يمكننا أن نؤكد هنا أن هؤلاء هم عادة من نخبة القراء، لا سيما في إيرلندا أي من الذين قرأوا أو يعيدون دائماً قراءة رواية “يوليسيس” للكاتب جويس ، بيد أن معظم هؤلاء من الصعب النظر إليهم باعتبارهم من الذين يستعيدون في أذهانهم حقيقة غالباً ما تغيب عنهم، وهي أن رواية جويس هذه ليست في حقيقة أمرها سوى نوع من إعادة الكتابة لنص قديم سبق وجودها بألوف من السنين. وهو ملحمة “الأوديسة” للشاعر الإغريقي هوميروس

وهم في سياق هذا الجهل، أو التجاهل بالنسبة إلى كثر منهم على أية حال، نادراً ما يلفت انتباههم أمر بالغ الأهمية وهو أن العنوان الذي جعله جويس لروايته لا يحمله كاسم أي شخص من شخصيات الرواية. فالشخصية المركزية في الرواية الإيرلندية التي افتتحت حداثة القرن الـ20 وأسست لـ”تيار الوعي” في الرواية المعاصرة اسمه هارولد بلوم، أما الشخص الآخر الذي قد يدانيه أهمية فيدعى ستيفن ديدالوس. فمن أين جاء الاسم الطاغي منذ غلاف الرواية، كعنوان لها يوليسيس؟ الجواب بسيط، لكنه شديد التعقيد في الوقت نفسه.

مبررات نقلة زمنية

هذا الاسم عبر في الحقيقة كل تلك الألفيات الفاصلة بين هوميروس وجويس ليستقر على غلاف رواية هذا الأخير الكبرى. وفقط على غلافها، لكن المسألة أعمق من ذلك. فالمبرر الأساس الذي جعل تلك النقلة الزمنية ليست فقط ممكنة، بل حتمية أيضاً، هو أن بلوم يعيش خلال ذلك اليوم الوحيد الذي يمضيه في مدينته دبلن في الزمن الأقرب إلينا، رحلة يريد الكاتب أن يقول لنا إنها تماثل رحلة مماثلة قام بها سلفه الإغريقي الكبير لكنها استغرقته ما يقارب 10 أعوام.

 ومن الواضح أن هذا “التشابه” المفترض بين الرحلتين هو موضوع إعادة الكتابة التي قام بها جيمس جويس بعد مرور كل تلك الأزمنة على الرحلة التي قام بها البطل الإغريقي العائد من حروب طروادة التي شارك فيها، ليبحث عن زوجته بينيلوب وابنه تيليماك ومدينته إيثاكا بعد كل تلك الغربة الطويلة، وبعد سلسلة أخطار عاشها عبر مناطق البحر الأبيض المتوسط والغرائب التي اضطر إلى مجابهتها، ناهيك بالخيانات التي تكالبت عليه حتى بعد وصوله دياره.

ألفيات عديدة في يوم واحد

طبعاً لا يمكننا القول إن هارولد بلوم قد عاش أي شيء من ذلك كله. فيوم تجواله الوحيد في مدينته حتى ولو امتد لساعات أخرى إضافية، لا يمكنه أن يتسع لذلك ولا حتى لجزء يسير منه.

ومع ذلك جرؤ جويس على زعم ذلك، جاعلاً من الساعات القليلة التي أمضاها بطله وهو يرافقه بقلمه خطوة خطوة ويصور لقاءاته بمن يعرف من الناس وبمن لا يعرف وكأن الزمن تباطأ بها إلى حدود عجائبية. وهو لكي يؤكد ذلك، ويقنع قراءه، الذين سيقتنع كثر منهم على أية حال بشيء من التردد أولاً، ثم من دون تردد على الإطلاق، عزز لعبته برمي عدد كبير من الإشارات والعلامات والمصطلحات والمرجعيات.

 

 ناهيك بالحوارات والمواقف والصدف بشكل سيحتاج معه مترجمو الرواية إلى شتى اللغات التي ترجمت إليها طوال القرن الذي مضى منذ نشرت “يوليسيس” في باريس وباللغة الإنجليزية، للمرة الأولى في عام 1922، سيحتاجون إلى إضافة قاموس لغوي ومعرفي لوصول الرواية إلى متلقيها، تماماً كما فعل مترجمها إلى العربية الكاتب صلاح نيازي في واحدة من أفضل ترجماتها وهي تلك الصادرة قبل سنوات عن “دار المدى” العراقية.

والحقيقة أن هذا القاموس يجعل من الرواية عملاً بحثياً معرفياً بقدر ما هي عمل إبداعي ومن دون أن يشوه قراءتها أو انسيابيتها بالنظر إلى أن القاموس يعتبر في حد ذاته جزءاً من إبداع “يوليسيس” الروائي.

بقايا الرقابة الفيكتورية تتدخل

ولكن لا شك أن قارئنا هنا سيطرح على نفسه حين يقرأ السطور السابقة سؤالاً قد يحيره: لماذا طبعت الرواية في لغتها الأصلية للمرة الأولى في باريس وليس في دبلن أو في لندن؟ بكل بساطة، لأن الرقابة الإنجليزية وعلى غرارها نظيرتها الإيرلندية اعتبرت “يوليسيس” رواية إباحية. صحيح أن التزمت الفيكتوري في الإمبراطورية البريطانية كان قد زال منذ زمن لكن ما تبقى منها وجد نفسه عاجزاً عن قبول مشاهد كثيرة في الرواية تسمي الأمور بأسمائها. وتلك على أية حال سمة من سمات رواية جويس أبعدها أكثر وأكثر بالطبع عن الأصل الإغريقي الذي تنطحت لإعادة كتابته.

طبعاً عادت الرقابات وتساهلت وباتت الرواية تراثاً كلاسيكياً بل تراثاً يفوق في شهرته ومقروئيته الأصل الذي ولدت من رحمه. ويمكننا القول إن هذا إنما تحقق بالتدرج وعقداً بعد عقد، بحيث إنه لا يزال ثمة حتى اليوم بلدان لا تحب رقابتها هذه الرواية، وتعتبر حتى قراءها النخبويين قاصرين يجب منعهم من الوصول إليها، مع معرفتها بأنهم وحدهم المرشحون لقراءتها بالنظر إلى أن “يوليسيس” لم تكن أبداً رواية شعبية تبحث عنها جماهير القراء للتمتع بها، إلا في البلدان التي تمنعها رقاباتها كما جرت العادة دائماً.

من خارج الرواية

هنا بعد أن توسعنا إلى حد ما في هذا كله قد يحق لنا أن نتساءل: ولكن مرة أخرى، أين هو يوليسيس وحكايته في حكاية هارولد بلوم؟ حسناً سنجيب بسرعة: موجودان بالتأكيد ولكن كعناصر تأتي من خارج الرواية.

إذا صرفنا النظر عن الاختلاف الهائل بين العملين الأدبيين، واعتبرنا مجرد أنهما يغوصان في حديث عن رحلة يقوم بها كل منهما، أمراً يبرر انضواءهما معاً في سياق واحد. ولعل السمة الأولى التي بررت لجويس ذلك الانتماء هي أنه في كل مرحلة من مراحل جولة بطله في دبلن يعمل على الاستعارة من فصول عديدة من الملحمة القديمة، يذيبها في زمن مكثف، يشوهها وينتقل بها من مكان إلى آخر.

لكن الكاتب المعاصر لا يفوته وهو يفعل ذلك بكل دهاء وخبث أن عليه أن يتذكر دائماً أنه إنما “يعيد كتابة” عمل أسطوري ومن هنا يحول الثواني والدقائق الدبلنية إلى أساطير متكاملة، بحيث إن كل حدث يخبرنا به ويعيشه هارولد بلوم يتحول إلى سرد طويل ينضوي في آن معاً ضمن سياق يومية البطل المعاصر وأسطورية البطل الإغريقي. فهل يهم بعد ذلك أن يكون المسعى الرئيس لبلوم، حتى دون أن يتنبه لذلك، الهبوط بمستوى نموذجه العتيق إلى جحيم وهاوية لا قرار لها؟

بحث غير مجد عن استقلالية

مهما يكن لا بد من إشارة هنا إلى أن جويس، وفي الطبعات المبكرة من روايته، وصل إلى حد أنه جعل لكل فصل من فصولها عنواناً مستقى مباشرة وحرفياً من عناوين “الأوديسة” وفي ترتيبها المعهود منذ ألوف السنين.

واللافت هنا أن معظم تلك العناوين التي سيعود الكاتب ويتخلى عنها لاحقاً من دون أن يوضح الأسباب التي دفعته إلى ذلك، إنما تحمل أسماء شخصيات الملحمة القديمة ولكن من دون أن يكون في سياق فصول الرواية أي تبرير منطقي لذلك. كأن المطلوب فقط تذكير القارئ المعاصر بانتماء “يوليسيس” إلى الأوديسة ثم دفعه إلى نسيان ذلك نسياناً تاماً.

وثمة من مؤرخي الرواية ونقادها المعاصرين من اكتشف أن هناك من بين من يدرسون رواية جويس اليوم من ينسون أن الكاتب نفسه قد تخلى عن تلك العناوين (الأسماء) فأبقوا على الإشارة إليها في دراساتهم كما أبقوا على تبرير وجودها ودلالات ذلك الوجود!

والحقيقة أن هؤلاء الباحثين يتجاهلون اليوم أن تخلي جويس نفسه ومنذ وقت مبكر عن تلك العناوين إنما كان هدفه منه أن يمعن في إضفاء استقلالية ما على روايته، ولكن هل كان ليخطر في باله على أية حال أن “يوليسيس” عاشت وستعيش حياتها أكثر وأكثر مستقلة، بحيث إن كل ما يربطها بـ”الأوديسة” لن يكون سوى عبء عليها إن لم يتجاهله القراء الأكثر حصافة ما إن يتجاوزوا في قراءتهم صفحاتها الأولى؟