القمة العربية الإسلامية حول غزة في الرياض (واس)

حسناً فعلت السعودية بقرارها، بعد التشاور مع جامعة  العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، دمج قمتي المنظمتين في قمة واحدة من أجل غزة فلسطي

كان بيان وزارة الخارجية السعودية عن قرار الدمج واضحاً في تحديد الأسباب: فـ”استجابة للظروف الاستثنائية التي تشهدها غزة، تقرر عقد قمة عربية إسلامية مشتركة غير عادية بشكل استثنائي، عوضاً عن القمة العربية غير العادية والقمة الإسلامية الاستثنائية اللتين كانتا من المقرر أن تعقدا في التاريخ نفسه”.

كانت غزة ستشغل القمتين، وفي المبدأ، ليس غريباً جمع الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في لقاء واحد، فالمنظمتان قامتا في الأساس من أجل قضية واحدة.

الجامعة انطلقت في عام 1945 وسرعان ما كانت فلسطين وما تتعرض له منذ الأربعينيات قضيتها الأولى، ومنظمة التعاون انطلقت بدورها عام 1969 بهدف توحيد جهود الدول الإسلامية دفاعاً عن المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في القدس المدينة المقدسة لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث.

طوال سنوات وعقود تمسكت الهيئتان بحقوق الشعب الفلسطيني وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وقدمتا الدعم المادي والمعنوي لسكان الأراضي المحتلة، لكن إسرائيل واصلت قضم حقوق الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم في القدس والضفة الغربية.

إسرائيل أمعنت في حصار غزة وحولت القطاع إلى سجن كبير، وحاصرت المدن والقرى في المستوطنات، إلى أن كان الانفجار الحالي بعد هجوم حركة “حماس” في السابع من الشهر الماضي التي أصابت إسرائيل في صميم كبريائها العسكري والاستخباري، فردت حكومتها المتطرفة والاستيطانية بإطلاق العنان لأقسى عملية قتل وتدمير وتهجير ضد سكان غزة، وضد أبناء الضفة، وكشفت في الوقت نفسه عن نواياها في طرد الفلسطينيين والتخلص منهم بإرسالهم إلى سيناء جنوباً، وإلى الأردن شرقاً.

بعد 35 يوماً على بدء هذه الحملة الإسرائيلية الشعواء انعقدت “القمة التاريخية” في الرياض، خلال ساعات انعقادها واصلت إسرائيل عملياتها الدموية، لم تطلق أية إشارة إيجابية تجاه الغضب العربي والإسلامي والدولي، بالعكس خرج مكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ببيان موجه إلى القمة يطالبها بالتحرك “للإفراج الفوري عن 200 مختطف تحتجزهم “حماس” و”داعش”. وخاطب بيان نتنياهو قادة الدول الـ57 بالقول “عليكم إدانة مجازر حماس وداعش” وأن “إسرائيل تقوم بتحرير سكان غزة من حكم القمع الإرهابي”!

تصر إسرائيل على الدمج بين “حماس” و”داعش” لأنها تعرف مدى الخراب الذي ألحقته منظمة “داعش” في المجتمعات والدول العربية، لكنها بذلك تحاول الهرب من المشكلة الأساسية والتغطية عليها.

لم يستشعر نتنياهو وحكومته حجم الغضب والرفض للمجازر التي يرتكبها جيشه ومستوطنوه في غزة والضفة، ولم ينتبه إلى معنى قمة الرياض الأولى من نوعها، ولا إلى التظاهرات التي تملأ شوارع المدن من لندن إلى نيويورك، بمشاركة مئات الألوف بمن فيهم أبناء الجاليات اليهودية، رفضاً للحرب ودعوة لوقفها.

يكمل نتنياهو حربه مستنداً إلى دعم أميركي غير مسبوق، وإلى تعاطف أوروبي (بريطاني- ألماني وفرنسي خصوصاً) أثارته هجمة “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والخسائر الكبيرة التي ألحقتها بالجنود والمدنيين الإسرائيليين، لكن هذا التعاطف بدأ يتآكل.

نجد تعبيرات لهذا التآكل في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفي ارتباك تعبر عنه الإدارة الأميركية في بعض تصريحات الرئيس جوزف بايدن، على رغم أن هذه الإدارة اختارت قبل ساعات من قمة الرياض الوقوف ضد 168 دولة في الأمم المتحدة صوتت أول من أمس الجمعة، في إطار “لجنة الشؤون الاجتماعية والإنسانية والثقافية” التابعة للأمم المتحدة لمصلحة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحل الدولتين.

لقد كان مثيراً للسخرية أن تجد الولايات المتحدة نفسها في التصويت وحيدة إلى جانب إسرائيل، وليس معها سوى ممثلي دول جزر المارشال وميكرونيزيا وناوورو!

لم يعد مفهوماً بعد 37 يوماً من العقاب الدموي المفروض على الشعب الفلسطيني أن تستمر السياسات الدولية على النحو الذي سارت عليه في التأييد الأعمى لإسرائيل، وقد خلصت قمة الرياض إلى بيان قوي وتفصيلي في تناوله للأزمة الحالية وأصول مسبباتها وتداعياتها على المنطقة المباشرة منها، وتلك الطويلة الأمد.

لم يترك البيان زاوية تتصل بالواقع الحالي ومستقبل الصراع إلا وتناولها، خصص ثلثي بنوده الأولى تقريباً إلى معالجة الهجوم على غزة داعياً إلى وقف فوري لإطلاق النار و”كسر الحصار”، وإدانة الاعتداءات على المقدسات والسياسات العنصرية ومحاولات التهجير، وإلى المحاسبة ورفض “ازدواجية المعايير” في تطبيق القانون الدولي.

وإذ أعاد المؤتمرون تأكيد مرجعية منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ذهبوا في الثلث الأخير من مقررات اجتماعهم إلى الدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام كخيار استراتيجي استناداً إلى مقررات الشرعية الدولية والمبادرة العربية، لضمان قيام دولة فلسطين على خطوط الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، واستعادة الجولان إلى سوريا ومزارع شبعا إلى لبنان.

خلصت القمة، لإضفاء مزيد من الجدية على مقرراتها الخاصة بالوضع الراهن في غزة، إلى تشكيل لجنة تتحرك فوراً برئاسة السعودية وعضوية وزراء خارجية الأردن ومصر وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا وفلسطين (ومن يرغب)، بهدف “وقف الحرب والضغط لإطلاق عملية سياسية حقيقية” قوامها في البنود المعلنة.

لا شك أن الحصيلة النوعية التي توصلت إليها قمة الرياض الأولى من نوعها ما كان يمكن تصورها لولا العمل الصبور والمبدئي الذي مارسته القيادة السعودية منذ قمة جدة العربية في مايو (أيار) الماضي، منذ انفجار الوضع في غزة. لقد أسفر هذا الصبر والعمل السياسي الذي رافقه، بما في ذلك فتح صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية مع تركيا من جهة وإيران من جهة ثانية، عن تأمين نجاح اجتماع فريد من نوعه ذهبت رسائله في ثلاثة اتجاهات:

الرسالة الأولى إلى الدول الأعضاء في المجموعتين العربية والإسلامية، وقوامها أهمية الاتفاق على جدول أعمال وبرنامج موحد في النظر إلى القضية الفلسطينية وليس التعامل معها من منطلقات خاصة بكل بلد أو نظام.

وفي هذا الإطار كان حضور إيران وتركيا، وهما من أصحاب المشاريع “الفلسطينية” الخاصة، والتزامهما بالبيان التفصيلي المشترك، بما في ذلك الموافقة على حل الدولتين وتأكيد شرعية منظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، علامة مهمة على نجاح المؤتمر في مواجهة أميركا والقوى العالمية بموقف موحد، وعلى حرص المجموعة العربية والإسلامية على إيجاد حل لقضية فلسطين قدر حرصها على السلام الإقليمي والدولي. بهذه الروحية عملت السعودية منذ قمة جدة العربية التي أعادت التمسك بالمشروع العربي للسلام، وهو الأمر الذي تم التأكيد عليه في القمة السعودية- الأفريقية أول من أمس الجمعة.

الرسالة الثانية وجهها المؤتمرون إلى إسرائيل والفلسطينيين معاً. إلى الإسرائيليين أنهم لن ينعموا باستقرار مع استمرار الاحتلال والسياسات العنصرية، وأن التطبيع شرطه تنفيذ القرارات الدولية والمبادرة العربية، وإلى الفلسطينيين أن عليهم استعادة وحدتهم في إطار منظمة التحرير ليكونوا جاهزين لقيادة دولتهم المستقلة.

الرسالة الثالثة إلى أميركا التي تقدم الدعم والحماية لإسرائيل من دون حساب. بيان القمة التفصيلي يوضح ما هو المطلوب من أميركا بدءاً من التخلي عن ازدواجية المعايير وصولاً إلى الانخراط في عملية سلام مرجعيتها القرارات الدولية.

لقد لعبت الولايات المتحدة، ولا تزال، دوراً منحازاً كلياً لإسرائيل، وهو ما جعل مهمة وزير خارجيتها أنتوني بلينكن صعبة، بل مستحيلة منذ البداية.

في رحلته الأولى إلى المنطقة اضطر لانتظار ولي العهد السعودي ساعات قبل أن يحظى بلقائه، وفي الزيارة الأخيرة إلى عمان واجتماعه بوزراء خارجية عرب، فشل في تقديم أي شيء جديد. ولم يكن ذلك مفاجئاً، فالرجل يمثل إدارة لا تزال تمنح الضوء الأخضر للهجوم الإسرائيلي، وهو شخصياً قدم نفسه “إسرائيلياً” قبل أن يذهب للقاء نظرائه العرب.

بعد الرياض سيكون صعباً على الإدارة الأميركية أن لا تأخذ ما قرره الاجتماع العربي- الإسلامي بالاعتبار، وفي واشنطن حيث يتذكر البعض دور فيليب حبيب في حرب لبنان عام 1982، هناك من يثني أكثر على هنري كيسنجر الذي استفاد من حرب 1973 لينقل العلاقات المصرية- الإسرائيلية من مكان إلى آخر، وهو في ذلك الوقت لم يقل عن نفسه أنه يهودي أكثر من اليهود كما فعل بلينكن، لكنه التقط فرصة ليس من الواضح ما إذا كان خلفاؤه في إدارة بايدن سيلتقطونها، مع أنه في شبه المؤكد أن أفكاراً جديدة ستكون مطروحة، بيان الرياض في صلبها.