ملخص
استطاع بحس المهموم بتفاعلات الوطن أن يقرأ طالع الأيام، حتى ولو كانت بحجم تفجير إرهابي في قلب مدينة عريقة. وكأن “القوس والفراشة” تقول للحكام وللسياسيين وللأمنيين: لا تثقوا بتقارير أجهزتكم الاستخباراتية. اقرأوا نصوص مبدعيكم الأصيلة. اقرأوا محمد الأشعري.

20 مقاربة/ دراسة لـ20 ناقداً مغربياً وعربياً احتفت بالشاعر والروائي والكاتب الصحافي (والسياسي) محمد الأشعري وزير الثقافة المغربي السابق، خلال الدورة الـ45 لمنتدى “أصيلة” الثقافي الدولي.

الدراسات التي قدمت، وفق كلمات المحتفى به، أعادت كتابة نصوصه الشديدة التنوع، على حد وصف الأمين العام لمؤسسة منتدى “أصيلة” محمد بن عيسى، باعتبار أنه “جمع من كل فن طرفاً، فهو الشاعر والمبدع الروائي والقصصي، وهو الكاتب الصحافي الذي انفرد بأسلوبه، وهو العاشق للفنون البصرية”.

بدوره وصف الكاتب عبدالإله التهاني، الذي أشرف على تنظيم الاحتفال التكريمي، الأشعري بأنه حاز بكتاباته ألقاباً عدة ذات حمولة ثقافية مميزة، فهو مبدع بأوجه متعددة في أجناس عدة من الكتابة، مبرزاً أن “قصائده شغف مستمر بالحياة والحرية، واحتفال مُدوٍّ بانتصار التضحيات”. وتابع أنه “راهن، عبر دواوينه الـ11، على النثر لإنتاج بلاغة شعرية مغايرة تقوم على التجريب في اللغة والاستعارة”، موضحاً أن “أعماله الروائية، التي بلغت ست روايات، تكشف عن قدرة إبداعية خلاقة وخيال واسع ينبش في مرحلة عاشها من الداخل، وكان واحداً من شهودها والفاعلين في سياقاتها الثقافية والسياسية والإعلامية والمدنية”.

وفي مقاربته التي حملت عنوان “كوشم في ظاهر اليد” يقول الباحث لحسن لعسيبي إن الأشعري هو عنوان لجيل مغربي كامل يمكن وصفه إجرائياً بـ”جيل صدمة الاستقلال”، الجيل الذي فتح عينيه على وعود كبيرة، وانتهى إلى مرارة الحلم.

الأشعري المسرحي

أما الناقد والباحث الأكاديمي عبدالفتاح الحجمري، فقد ركز على محمد الأشعري الكاتب المسرحي، الذي أنتج نصين مسرحيين بعنوان “عيون زجاجية” و”شكون إنت؟”، إذ شرح في المسرحية الأخيرة بعين الأديب المتجرد تناقض السلطة من خلال شخصية بطل المسرحية “رمسيس” ذي الشخصية الغامضة والمركبة، موضحاً أن الأديب اختار الكتابة هنا بـ”دارجة مغربية قوية ومتينة وصافية وتحمل أكثر من دلالة”.

 

هو عنوان لجيل مغربي كامل يمكن وصفه إجرائياً بـ”جيل صدمة الاستقلال” (مؤسسة منتدى أصيلة)​​​​​​​

أما الناقد والباحث في الأدب واللغة والثقافة عبدالحميد عقار، فقد تناول رواية “جنوب الروح” للأشعري، والتي تشكل، إلى جانب روايات أخرى، من وجهة نظر الناقد، “بداية لحظة تحولية في مسار الرواية العربية”، مبرزاً بلاغتها الأدبية وبناءها السردي وجماليتها اللغوية.

من جهته تطرق الكاتب الصحافي والباحث والمترجم لحسن عسيبي، إلى الكتابة في بعدها السياسي والصحافي لدى محمد الأشعري، الذي ينتمي للجيل الناهض الذي “يؤطره قلق الوعي الشقي في أفق الإصلاح”، مبرزاً أن الأشعري “انتصر بوعي منذ بداية كتاباته، لأنه اعتبر أن الكتابة بمثابة وثيقة في التاريخ عبر الأدب”.

عن السرد وأغراضه

وتطرقت الروائية والناقدة والباحثة الأكاديمية زهور كرام، إلى الأدبية السردية ضمن رواية “من خشب وطين”، معتبرة أن هذه الرواية هي دعوة إلى التفكير في التحولات السياسية والمجتمعية والاقتصادية للمغرب، وأيضاً للتفكير في تحول نظرية السرد الروائي.

من جانبها، كشفت الباحثة حورية الخمليشي عن تجاور الشعرية والسرد في أعمال محمد الأشعري، مشيرة إلى أن هذا الكاتب المبدع أكسب القصيدة سحر السرد، كما أضفى في المقابل على رواياته مسحة شعرية مبدعة.

وتناول الناقد سعيد بنكراد ما سماه “مقامات البوح الاستشفائي” في رواية “جنوب الروح” للأشعري، ورأى فيها أنها ليست قولاً، ولكنها توجيه للقول، إذ لم يصبح الحديث عن السلطة مقنعاً إلا عندما جردها السارد من وجهها (أي مؤسسات الأمن والسياسة والأيديولوجيا).

وألقى الباحث عبدالصمد الكباص الضوء على الأشعري صحافياً في دروب الحقيقة التي لا تنتهي، وحمل صلاح بوسريف مداخلة بعنوان “مخاتلة السرد بالمجاز”، وفيها أن “الأشعري استطاع أن يكون صاحب أسلوب في الكتابة، لغة هادئة، هامسة، تتسم بخفوت نبضها، لا تحتمل ضجيج اللغة، أو اصطدام الحروف والكلمات وتدافعها”.

الناقد شرف الدين مجدولين تناول تجربة محمد الأشعري الأدبية من الجانب السياسي، من خلال قراءته لروايات “القوس والفراشة” و”علبة الأسماء” و”العين القديمة”، وفي رأيه من خلال تلك القراءة أن الروائي لا يمكن أن يكون شخصاً محايداً، لا مجرد صانع لحكايات مسلية، بطبيعة هذا الجنس الأدبي المشدود عادة للأفق السياسي المجتمعي.

وفي رؤية أخرى تناول إبراهيم الخطيب مسألة تشريح محكي المرأة في رواية الأشعري “العين القديمة”، وهي الرواية نفسها التي دعت حسن المودن لكي يلقي الضوء عليها من خلال “سؤال اليتم وقلق الانتساب”.

وتحدث محمد آيت العميم في دراسته عن التخلي عن المظهر والبحث عن الجوهر في رواية الأشعري “من خشب وطين”، مستشكفاً فيها أبعاداً بيئية، وهو ما كان مدار اهتمام محمود عبدالغني عندما تناول حضور الطبيعة في روايات الأشعري.

بطاقة الروائي والشاعر

المحتفى به محمد الأشعري حقق مكانة عربية بعد مكانته في بلاده إثر فوز روايته “القوس والفراشة” بجائزة الـ”بوكر” العربية مناصفة، لكنه ظل مخلصاً للشعر والقصة القصيرة من خلال عناوين عديدة، منها “سيرة المطر”، “يوم صعب”، “يومية النار والسفر”، “قصائد نائية”، “عينان بسعة الحلم”، “يباب لا يقتل أحداً”، “سرير لعزلة السنبلة”، “مائيات”، “أجنحة بيضاء في قدميها”، “حكايات صخرية”. كما ترأس اتحاد كتاب المغرب، ثم عين وزيراً للثقافة، وهو وجه معروف في النضال السياسي، وينتمي إلى أحد أعرق الأحزاب اليسارية المغربية.

 

وعن منجزه الروائي يقول الأشعري إنه لا يحمل العمل الأدبي أكثر مما يحتمل، ويضيف، “أنا أكتب أولاً انتصاراً للقيم الجمالية والإنسانية، وتحقيقاً لمتعتي الشخصية قبل كل شيء، وليس هناك أي تصادم في داخلي بين ما أشتغل به أحياناً في مجالات أخرى اجتماعية أو سياسية وما انصرف إليه عندما أختار أن أكتب، وأعتبر أن الكتابة هي اختيار شمولي وكلي، والرؤية الجمالية والفنية ليست حبيسة جنس معين يختاره الكاتب ويستقر عليه للأبد، وأعتبر أيضاً أن صميم حرية المبدع أن يتحول طليقاً بين هذه الغرف المفتوحة على كل حال على بعضها”.

الأشعري المستشرف

المقاربات التي تناولت منجز محمد الأشعري في احتفالية تكريمه أضاءت جوانب مختلفة من تجربته الإبداعية، في الرواية والشعر والمسرح والكتابة الصحافية، وربما كانت ستصبح أكثر شمولاً لو تناولت مسألة الاستشراف التي تنطوي عليها كتابات الأشعري وخصوصاً الروائية، وهو ما يتجلى على سبيل المثال في “القوس الفراشة”. في تلك الرواية يقدم الأشعري مشهداً قبل أن يحدث، أي يلتقط بحسه المستقبلي مآلات الأحداث في بلاده، منقباً ومنبهاً وسارداً.

توقفت عند ذلك المشهد وأنا أقرأ “القوس والفراشة” عند صدورها، وهو عبارة عن حوار هذا نصه:

– اسمع. لديَّ معلومات لا علاقة لها بهذا الموضوع، لا بد أن أطلعك عليها.

– من أي نوع؟

– هناك شيء رهيب يحضر في مراكش!

– مثل ماذا؟

– تفجير مروع!

– متى؟

– لا أحد يعرف.

– عندما تقول معلومات، هل تقصد معلومات فعلاً عن الجهة والأشخاص والسيناريو، أم هي مجرد نبوءة؟

– قليل من هذا وقليل من ذاك. إذا أردت أن تدخل في عين الاعتبار كوني أخاطبك من العالم الآخر فهي نبوءة، لكن إذا تخلصت من هذه الحدود الوهمية فإنها معلومات لا ينقصها إلا التوقيت.

هذا الحوار الخطر لم تسجله أجهزة الاستخبارات والرصد المشغولة بتتبع خيوط ومخططات الشبكات الإرهابية، وإنما كتبه بنباهة عالية الروائي محمد الأشعري في روايته “القوس والفراشة” (صفحة 146) والحائزة نصف الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية).

صدرت الرواية عام 2010، ومن المفترض أن يكون المؤلف قد أنجزها قبل أشهر من صدورها، أي قبل التفجير الذي وقع بمقهى “الأركانة” في ساحة “جامع الفنا” بمدينة مراكش بسنة في الأقل. وكأن الرواية، بما تستبطنه وبما تستشرفه عن أحوال المغرب، تجعل من الواقع المعيش مادة خصبة للخيال الروائي، الذي استطاع محمد الأشعري تقديمه بصياغة مغرقة في سحريتها مرة، وموغلة في تقريريتها دائماً.

من خلال حوار متوهم بين الأب، اليساري القديم الخائب، وابنه المقتول في عملية لتنظيم “القاعدة” في أفغانستان، يسوق المؤلف معلومات – أو إخبارية – عن تفجير متوقع في قلب مراكش القديمة، لكنه في واقع الأمر يجعل من إخباريته تلك وثيقة عن تحولات وطن توطنت فيه الحضارات، ودالت عليه الدول، وعصفت به التيارات، ونهشته الأطماع.

يتوسل محمد الأشعري في “القوس والفراشة” كل فنون الكتابة المعروفة لكي يعد وثيقته تلك على أكمل وجه. فهو ينجز، حيث ينبغي تحقيقاً صحافياً موثقاً عن أحوال النهش الاستثماري الذي يطيح التراث المعماري لمراكش وغيرها من المدن المغربية، ويتعمق حيث ينبغي في بحث تاريخي عن التداخل الحضاري في تشكيل هوية وطنه، ويقارب حيث ينبغي إحباطات وارتكاسات أبطاله بأسلوب فرويدي، ويمتح حيث ينبغي من مخزونه الشعري لكي يصيغ نصاً، متوتراً، نابضاً يغري القارئ بالدخول إلى آفاقه.

لمن يعرف المغرب، فقد كتب محمد الأشعري نعياً عصبياً لوطن يقدم فن الفسيفساء المنتشر في صروحه المعمارية أجمل وأصدق صورة عنه. تزداد انسجاماً كلما ازدادت تنوعاً، وتأتلف في تداخلات هندسية عبقرية كلما كثرت تفاصيلها ومفرداتها. لكن هل كانت هذه الصورة تجد اكتمالها في مصيرها الذي ينعاه الأشعري؟ هو يلخص فكرته بسطر واحد مكتنز بالدلالات القاسية، “أنا الدولة الوحيدة التي رآها مؤسسها ورشاً وأطلالاً في نفس العهد” (صفحة 178)، لكن هاجس محمد الأشعري كان أن يجعل من مساحة نصه متسعة لكي تستوعب في إداناتها كثيرين، وقد نجح في حشد الإرهابيين والمستثمرين والشارين والبائعين والمرتشين والمنتفعين في نص واحد.

والأهم من كل ذلك أنه استطاع بحس المهموم بتفاعلات الوطن أن يقرأ طالع الأيام، حتى ولو كانت بحجم تفجير إرهابي في قلب مدينة عريقة.

كأن “القوس والفراشة” تقول للحكام وللسياسيين وللأمنيين: لا تثقوا بتقارير أجهزتكم الاستخباراتية. اقرأوا نصوص مبدعيكم الأصيلة. اقرأوا محمد الأشعري.

بهذا المعنى وغيره استحق محمد الأشعري التكريم في “أصيلة” وكل أصيلة.