ربيع عام 1954… كم يبدو ذلك الزمن بعيداً تفصلنا عنه اليوم سنوات ضوئية. ففي شهر مايو (أيار) من ذلك العام كانت قلة من النخبة القارئة قد سمعت مسبقاً باسم تلك الفتاة ذات الـ19 ربيعاً، التي انطلقت منذ ذلك الحين صاخبة، ليس في فضاء الادب الفرنسي وحده، بل في فضاء الأدب النسائي في العالم أجمع.
آنذاك حدث هذا الصخب بعد صدور رواية أولى لها، فبعد أسابيع قليلة، منح النقاد الفرنسيون جائزتهم الربيعية لتلك الرواية المعنونة “صباح الخير أيها الحزن” مما جعل تلك الصبية واسمها فرانسواز ساغان كاتبة من أشهر كاتبات العالم، بل جعل منها ظاهرة اجتماعية – أدبية تكاد تلخص وحدها ما عجزت النزعة الوجودية كلها عن إيصاله إلى القطاعات العريضة من الناس.
خروج صاخب من المراهقة
كانت انطلاقة فرانسواز ساغان على ذلك النحو. ومنذ البداية كانت لهذه الكاتبة الخارجة لتوها من سنوات المراهقة، نزواتها، ولعل أشهرها لا مبالاتها التامة حين نقل إليها نبأ فوزها بـ”جائزة الربيع الأدبية الكبرى” لذلك العام، وهي الجائزة التي كانت أعطيت قبلها لألبير كامو.
بدا من الواضح أنه مجد لا يمكن لصبية مثلها أن تحلم به، فكيف كان رد فعلها حين بلغها النبأ؟ قالت لتوها “حسناً… وماذا في الأمر؟”، ثم حين طلب إليها أن تأتي لتناول العشاء مع أعضاء لجنة التحكيم اعتذرت متذرعة بأن لديها موعداً مع أصدقائها.
في النهاية جاءت إلى حفل العشاء فاستقبلها كبار نقاد ذلك الحين بكل آيات التبجيل، وفي تلك اللحظات بالذات ولدت أسطورتها. والحقيقة أن أسطورة فرانسواز ساغان ارتبطت في ذلك الحين بالنضالات من أجل حرية المرأة، لكنها ارتبطت كذلك بالسجائر المدخنة بنهم، وبالحديث المتلعثم والسيارات السريعة.
ارتباطات ساغان امتدت كذلك لتشمل أيضاً الأدب النسائي المتحدث عن تجارب حياتية معيشة، والمنتمي إلى نزعة وجودية قد تكون سطحية وبعيدة من الفلسفة الوجودية نفسها، لكنها تنتمي على أية حال إلى نظرة إلى الحرية والالتزام بالتحرر، وإلى لا مبالاة ترتبط جميعها بها، في الأقل بالصيغة الشعبية المتداولة للمذهب الوجودي.
ولما كانت تلك السنوات (أواسط الخمسينيات) زمن انطلاقة المجتمع من قيوده وبدء المرأة بالبحث عن هويتها، ليس فقط تجاه الذكر – “عدوها” الأبدي – بل أيضاً تجاه المجتمع الذي تريد أن تتملكه (لا أن تفرض حضورها فيه فقط)، كان من الطبيعي لأدب فرانسواز ساغان أن يلاقي ما لاقاه من نجاح ساحق، أولاً عبر “صباح الخير أيها الحزن” ثم عبر نصوص مثل “ابتسامة ما” (1956) و”في شهر… في سنة” (1957) و”هل تحب برامز؟” (1959) و”السحب الرائعة” (1961)، وصولاً إلى “المرأة المتبرجة” و”مع أفضل ذكرياتي” وغيرها.
ففي كل هذه النصوص، التي سرعان ما كانت تنقل إلى شتى اللغات ومن بينها اللغة العربية بالطبع، كانت فرانسواز ساغان تمزج الاجتماعي بالشخصي والثوري بالعاطفي، وكل هذا وسط نزعة أخلاقية لا شك فيها، تصل أحياناً إلى حدود الوعظ.
امرأة متغيرة
بعد ذلك بنحو عقد ونصف العقد من السنين بدا ذلك كله بعيداً جداً وينتمي إلى زمن ساحق. وهنا حين عادت ساغان من جديد برواية يفوق عدد صفحاتها كثيراً ما كانت اعتادت أن تكتبه في رواياتها السابقة، بدت بعيدة تماماً عن قرائها المعتادين.
وفي وقت كان هؤلاء يبدون فيه خيبة أملهم، إنما من دون أن يتخلوا عنها، بدا ترحيب النخبويين والمخضرمين بل حتى الكلاسيكيين من النقاد والقراء المميزين بها حماسياً وسط دهشة عارمة. وكان على شفاههم جميعاً سؤال معاتب بالنسبة إلى البعض، ومفعم بالرضا بالنسبة إلى البعض الآخر، هل تغيرت فرانسواز ساغان حقاً؟
لكن في الحالتين كان الجواب واحداً، أجل لقد تغيرت “مراهقة الأدب الفرنسي وربما بشكل جذري”. فابنة الثلاثين ونيف من العمر باتت امرأة ناضجة بل حتى كاتبة أكثر نضوجاً.
شيء من النزق القديم
وحدث ذلك تحديداً في عام 1969 حين صدرت روايتها الجديدة يومذاك “شيء من الشمس في الماء البارد”. صحيح أن أسلوب الكتابة العصبية ظل هو نفسه، وأن شيئاً من النزق “القديم” بقي على حاله، لكن تلك الرواية بدت ناضجة نضجاً كبيراً. وكاتبتها بدت راغبة في أن تصبح كاتبة أخرى، من دون أن تتخلى عن “مكتسبات” مراحلها السابقة.
ولم يكن مخطئاً فرانسوا مورياك حين تساءل بقدر ما من الرضا “عما أصاب المتوحشة الصغيرة”؟ أجل فجأة في هذه الرواية تغيرت فرانسواز ساغان تغيراً لافتاً. ولا سيما حين بدت هنا وكأنها باتت أكثر رغبة في نسج موضوعها في خلايا شخصياتها، ولكن أكثر من هذا في توقفها صفحات وصفحات عند وصفها الذي يكاد يكون انطباعياً للريف الذي لم يكن كبير الحضور في أدبها قبل ذلك.
أما كل تلك التجديدات فإنها حضرت هنا في “شيء من الشمس في الماء البارد” لكي تحكي حكاية لم يفت النقاد أن يصفوها بكونها حكاية في منتهى البساطة.
وكالمعتاد عندها، حكاية حب بطلها هذه المرة رجل يعيش على حافة الانهيار العصبي في بلدة ريفية فيحدث له أن يتعرف ذات يوم إلى امرأة. ويبدو أول الأمر وكأن المرأة قد تمكنت من إنقاذه من الحال التي يعانيها، لكن المشكلة التي تبرز لاحقاً هي أن المرأة سرعان ما تتحول بعد ذلك إلى… ضحية له.
نجاح أدهش صاحبته
والحقيقة أن فرانسواز ساغان كانت أول من أصابتها الدهشة إزاء النجاح غير المتوقع لهذه الرواية التي ستقول إنها إنما كتبتها “على سبيل التجريب”، مضيفة “إنها المرة الأولى التي أصور فيها في رواية لي، شخصاً بالمعنى المطلق للكلمة. ففي أدبي البائس من المؤكد أنها المرة الأولى التي يجد فيها قرائي حكاية شغف مطلقة، ودراما بالمعنى المطلق للكلمة، أنا التي دائماً ما حاولت تفادي الدراما”.
ثم مضت تقول “حكايتي بسيطة، ناتالي بطلة هذه الرواية امرأة أحبت رجلاً وقررت بينها وبين نفسها أن لا وجود لأي شيء آخر في الدنيا. وهذا كل شيء، لأن ليس ثمة أية وسيلة لإعادة ناتالي إلى رشدها وإقناعها بأن الحياة إنما تتكون من تنازلات صغيرة لا مفر منها، وأن ضروب الشغف كما حال كل أنواع التنازلات تمضي لحالها، ولكن من دون جدوى فهي لا يمكن أن تقتنع إلا بما تتشبث به في لحظة معينة!”.
ناتالي – فرانسواز
ومن يعرفون فرانسواز ساغان أدركوا بسرعة أنها إنما تصف نفسها هنا، أو بالأحرى تصف ما كانت هي عليه قبل كتابة “شيء من الشمس في الماء البارد”، ولكن انطلاقاً من وعي تلك المرأة الناضجة التي باتت عليها وهي تكتب هذه الرواية.
وبالمناسبة بدا على ساغان هذه المرة أنها باتت ميالة إلى التفلسف من حول الكتابة على ضوء تجربتها الجديدة والنجاح الذي حققته بها، إذ ها هي ذي تضيف: “ليست الكتابة سوى تلك المتعة المزدوجة التي تتأتى من تحقيق الرغبة في الحكي من ناحية، والرغبة من ناحية ثانية في حكي حكاية معينة. ولنضف إلى ذلك رغبة ثالثة هي الرغبة في الكتابة، الرغبة التي تتسم بقدر كبير من الغموض، إذ فجأة نعثر على صفة وموصوف يتماشيان معاً بصورة رائعة إنما لا يمكن تفسيرها. كلمتان رائعتان تدفعاننا إلى التقاط القلم والشروع في الكتابة. فيبدو الأمر على الفور وكأننا نسير قدماً في بلاد مجهولة إنما رائعة الجمال. ورائعة حتى وإن كان يحدث لنا فيها أن نشعر بشيء من الإهانة وتحديداً حين نكتشف في نهاية الأمر أننا لم نتمكن من كتابة ما كنا نريد كتابته حقاً. عند ذلك يحل ما قد أسميه موتاً صغيراً. وهو نفسه ذلك النوع من الخجل بالذات. الخجل لمجرد الإحساس الغامض بأن ما كتبناه وما سنواصل كتابته إنما هو كلام مبتذل…”.
فرانسواز ساغان التي رحلت عن عالمنا في عام 2004 وسط آلام مبرحة كانت من مواليد عام 1935 وهي اعتبرت منذ ظهورها في الحياة الأدبية الفرنسية خليفة الكاتبة كوليت التي كانت هي من عينتها على أية حال خليفة لها في عام ظهور “صباح الخير أيها الحزن” وهو العام نفسه الذي رحلت فيه كوليت راضية عن نفسها وعن خليفتها!