رحلته السينمائيّة منذ مطلع التسعينيّات من القرن الفائت هي رحلة عواصم، ففي باريس تفتّح وعيه على السينما كوسيلة تعبير له وحرفة، وفي العاصمة الأوكرانية كييف أتمّ دراسته السينمائيّة، وفي بيروت صوّر فيلميه الروائيين الطويلين “الإعصار” (1993) و”دخان بلا نار” (2009) فضلًا عن الفيلم الوثائقيّ “سيدة القصر” (2003)، وفي القاهرة أنهى حديثًا فيلم “حسن المصري” الذي تنطلق عروضه في مصر والعالم العربي في مطلع تشرين الأول ̸ أكتوبر المقبل.
التقيتُ المخرج سمير حبشي، رئيس قسم السينما في الجامعة اللبنانية، لأسترجع معه رحلته المديدة هذه، ذات المحطات المتعدّدة، ولكي نستطلع معًا تفاصيل هذا المسار المليء بالنجاحات، وباحتضان السينمائيّ العالميّ الراحل يوسف شاهين لموهبته ودعمها إنتاجيًّا، وبالصعاب التي تعترض السينمائيين في لبنان حيث لا اهتمام يلقونه من الجهات الرسمية المعنية ولا صندوق دعم.
ولكوني أستاذًا محاضرًا في الجامعة اللبنانية بعدد من المواد السينمائية، كان تركيزي في جانب من الحوار مع المخرج حبشي على مرحلة إعداده الأكاديمي في معهد كييف السينمائي، زمن الاتحاد السوفياتي، فهنا “أُطرب” لسماع صوت العراقة والأصالة، وأُفتن بمعرفة أنّ أستاذه في مادة الإخراج طوال خمس سنوات كان تلميذًا مباشرًا للرائد العظيم لِڨ كولوشوڨ الذي أستفيض بالكلام عنه مع طلّابي في الفصول التعليميّة الخاصة بتاريخ السينما.
(*) متى تفتّح وعيك على السينما وأدركتَ أنّها ستكون وسيلتك التعبيريّة وحرفتك الفنيّة؟
كنتُ في نحو السابعة عشرة من العمر يوم سافرتُ إلى باريس حيث مكثتُ سنةً واكتشفتُ من احتكاكي بالوسط الثقافي والفنّي أنّ السينما في الاتحاد السوفياتي، عهد ذاك، هي الأهمّ إبداعًا وتعليمًا، فقرّرت السفر إلى روسيا وبذلتُ جهدًا للحصول على منحة تؤهّلني للالتحاق بواحد من معهدي السينما المشهورين، VGIK في موسكو وVGITI في كييف. كانت يتمّ توزيع الطلّاب الناجحين في امتحانات الدخول إلى هذين المعهدين، وكنتُ من المجموعة المشكّلة للالتحاق بمعهد كييف في أوكرانيا التي كانت بالطبع جزءًا من الاتحاد السوفياتي.
(*) هناك في كييف بدأت مسيرتك الأكاديمية التي امتدت سنوات طويلة. بمَ تصف هذه المرحلة؟
مكثتُ في كييف من عام 1982 إلى عام 1992، منها ستّ سنوات لنيل الماجستير في الإخراج السينمائيّ، وكان عنوان فيلم تخرّجي “خيالات صحراء” الذي عُرض في مهرجان “برولوغ” الذي يقام في كييف وحاز فيلمي جائزة المهرجان الكبرى، وكانت المرة الأولى التي ينال فيها فيلم أجنبيّ، غير سوفياتي، هذه الجائزة الأولى. كان فاتحة خير لي وذاعت شهرته في أنحاء الاتحاد السوفياتي كشريط في خمس وعشرين دقيقة لا يحوي كلامًا بل مجرّد لقطات مشهديّة، حتّى أنّ المنتج الأذربيجانيّ المعروف جدًا في تلك الفترة، فاتالييڨ، الذي كان كاتب سيناريو أيضًا وتعاون مع المخرج الكبير نيكيتا ميخالكوف، فضلًا عن أنّه مدير استوديو “أذربيجان فيلم”، شاهد فيلمي وأرسل إليّ دعوة إلى أذربيجان لعرض فيلمي هناك، قائلًا لي: سأنتجُ لك فيلمًا روائيًا طويلًا.
(*) قبل أن نصل إلى فيلمك الأول الطويل، حدّثني عن “خيالات صحراء”. ما هو التصوّر السينمائيّ الذي وضعته لفيلمك هذا؟
إنّه فيلم مناهض للحرب اللبنانية وعنفها وعبثيتها. حين يغيب الحارس، أو “الناطور” في التسمية اللبنانية، يوضع مكانه “خيال الصحراء”، أو ما يُعرف في محلّيتنا أيضًا بـ”الفزّاعة” التي تُنصب في الحقول والكروم للإخافة والإبعاد في غياب “الناطور”. والفكرة الأساسية أنّ ثمة “خيال صحراء” كان موجودًا في لبنان وهوى، أي “الدولة” بالمعنى الرمزيّ الاستعاريّ. ومكان “خيال الصحراء” هذا الذي هوى نبتت “خيالات صحراء” ترمز إلى أطراف الحرب وقياداتها أو “أمرائها”.
(*) هذه الرمزيّة المشهدية الواسعة مصوّرة كلّها بلا أي كلام أو نصّ يرافق الصورة.
صحيح، ليس في الفيلم كلمة واحدة، علمًا بأنني صوّرته في أذربيجان فيما تدور حوادثه في لبنان، ومع ذلك اقتنع مشاهدوه بأنّ مواقع التصوير هي في لبنان. الأرض الأذربيجانية تشبه أرض لبنان.
(*) قبل “خيالات صحراء” أنجزتَ أيضًا فيلمًا آخر يرمز إلى الحرب في لبنان. كأنّ هذه الحرب شكّلت لك هاجسًا تملكيًّا منذ البداية.
لا أحسبها هاجسًا إذ نشأتُ في زمن الحرب الأهلية وعشتُ يومياتها وتفاصيلها. كنتُ في الثالثة عشرة يوم اندلعت، وكنّا نشعر آنذاك بأنّ ثمة أنماطًا ثلاثة للعيش: العالم الاشتراكي، العالم الرأسمالي، و”العالم اللبناني”، عالم الحرب وكيفيّة العيش ضمنه. أدمن الناس الحرب حتى باتت القذائف المنهمرة تشبه المطر. حين تمطر يتّقي الناس المطر، والأمر نفسه لدى “انهمار” القذائف، يهرع الناس إلى بيوتهم وملاجئهم، ثم حين يهدأ مطر القذائف يخرجون بسياراتهم إلى الطرقات! هذا الأمر كان مذهلًا ودفعني إلى التفكير في فيلمي الروائيّ الطويل الأول “الإعصار” الذي كان إنتاجًا مشتركًا بين موسكو ولبنان. حين كنتُ أزور لبنان صيفًا في مرحلة الدراسة في كييف لمستُ على الأرض كم اعتاد الناس في بلدي الحرب إلى درجة الاستخفاف بها. فإن لم يَطُل القصف مبناك بل المبنى المجاور فإنّ لا شيء يدعو للقلق! قبل سفري كنت بهذه الحالة من التعوّد الذي فقدته بعد سفري للدراسة. كنتُ في سنوات الشباب الأولى أسيرُ وصحبي في بيروت وضواحيها مسافات طويلة تحت القصف، لا مبالين، بل متسامرين حول الفتيات الجميلات (ضحك). تلك الوقائع بقيت سجينة وجداني حتى عبّرتُ عنها بإسهاب في “الإعصار” راويًا قصة هذا الطالب، أي أنا، الذي يشهد كلّما عاد إلى بلده ذاك التضادّ في حياة اللبنانيين وعلاقتهم بالحرب. عبثية مطلقة.
(*) لكن أين تكمن الإضافات في نظرتك الذاتية الخاصة إلى هذا الواقع الكابوسيّ والعبثيّ؟
سينما المؤلّف تنطلق دومًا من الذات، بيد أنّها لا تبقى شخصية. فالذاتيّ هو جزء من العام. المنطلق الذاتيّ يضمن الكلام بصدق عن مشكلة عامة. مشكلتي الذاتية يعاني منها اللبنانيون جميعًا. لا يعالج فيلمي هذا سوى عبثية الحرب وعنفها الذي لا يؤدّي إلى أي نتيجة. هذا اقتناعي الشخصيّ وليس في السينما فحسب.
(*) إلى أيّ حد أثر تشبّعك الإعداديّ والتكوينيّ الأكاديميّ من المدرسة السينمائية الروسية برؤيتك السينمائية الخاصة؟
لا يعي المرء كيف يتأثّر تحديدًا إلّا بعد الابتعاد والنظر من بعيد. ثمة لغة فريدة في المدرسة الروسية (أو السوفياتية) بالتأكيد. مثلًا، يوم أنجزتُ “خيالات صحراء” وشاهده النقّاد في لبنان قالوا إنّه يشبه السينما الروسية. بينما في روسيا، لم يقل مشاهدوه ذلك البتة، بل رأوا فيلمًا لبنانيًا محضًا وعبّروا بالقول: كم هي جميلة السينما اللبنانية. وأنا نفسي أعتبر أفلامي لبنانية. ربّما فيها “رائحة” السينما الروسية لناحية اللغة المشهدية والشكل. لكنّ المضمون لبنانيّ مئة في المئة.
(*) لو عدنا قليلًا إلى مرحلة إعدادك السينمائي في كييف، بمَ تتميّز هذه المرحلة؟ ماذا تلقنتَ هناك ممّا لا يُلقّن في معاهد سينمائية أخرى في العالم؟
عندما تلتحق بمعهد موسكو أو معهد كييف فإنّك تدخل فورًا من باب اختصاص محدّد. ليسا معهدين لاختصاص “السمعي – البصري” (Audio-Visuel). تقول: أريد أن أصبح مخرج سينما روائية. تدرس ستّ سنوات إخراج السينما الروائية. يُطلب إليك تصوير فيلم 16 ملم بالشريط الخام، لا بالفيديو، وتقوم بكتابته وإخراجه وتصويره وتوليفه. هذا في السنة الأولى. أما في السنة الثانية فيُمنع عليك التصوير بنفسك أو التوليف (المونتاج) بل تُحصر مهمّتك في الإخراج. تُدرّب طوال خمس سنوات على أن تكون مخرجًا فقط.
(*) هذا لأنّ إدارة التصوير هي اختصاص آخر مستقلّ.
تمامًا.
(*) لكنّكم تُدرَّسون موادَّ أخرى غير وجهة الاختصاص.
في السنة الأولى فقط. لدينا مواد في الفلسفة والموسيقى والأدب والمسرح والتمثيل. لا أخال أنّ ثمة العديد من المعاهد المماثلة في العالم لناحية المنهج التعليميّ والإعداديّ. إنّه أسلوب خاص مختلف تمامًا عن باقي البلدان. أستاذي نيكولاي إلينسكي، تلميذ الرائد الروسيّ العالميّ في العشرينيّات من القرن العشرين لِڨ كولوشوڨ، كان أستاذي في مادة الإخراج. خاطبنا منذ اللقاء الأول بالقول: أنتم تلاميذي طوال خمس سنوات مقبلة، بعد ذلك ستصبحون مخرجين، ولكن مَنْ الموهوب بينكم أو غير الموهوب، لا أدري. قد تصيرون أفضل مني، وقد تفشلون أو تغدون عباقرة. لا أدري. إنّما الأكيد أنكم ستصبحون مخرجين. عليكم الالتزام معي كلّ أربعاء وسبت وطيلة اليوم، على امتداد هذه السنوات الخمس. هذا الأستاذ لم يكن يدرّس سوانا.
“الإعصار”
(*) عودةً إلى فيلمك “الإعصار” الذي شهد ردود فعل إيجابية كبيرة جدًا من النقّاد والجمهور على السواء. فعلى نحو غير متوقع، زحفت الجماهير بعشرات الآلاف إلى الصالات اللبنانية. كيف تستعيد تجربتك مع هذا الفيلم؟
حين أنجزتُ فيلمي هذا لم أفكر البتّة في الجمهور. كان همّي صنع فيلم مطابق لاقتناعاتي ورؤيتي الخاصة. مع ذلك كنت مراهنًا على نجاح الفيلم شعبيًا. بعد إنجازه بمشقّة إنتاجية كبيرة، لم أعثر على صالات محلية متحمّسة لعرضه وحجّة القيّمين عليها أن لا قصة تقليدية في فيلمي، فساعدني نقاد وأصدقاء، في مقدّمهم الأستاذ إميل شاهين، في التواصل مع أصحاب الصالات لإقناعهم فأفلحوا في إقناع أحدهم، السيّد أنطوان الخازن، الذي اشترط أن يُعرض لأسبوعين فحسب. أُطلقت عروض الفيلم واتّصل بي السيّد الخازن في الأسبوع الثاني، الساعة الحادية عشرة ليلًا قائلًا لي: أين أنت؟ تعال إلى الصالة كي ترى كيف يجلس الجمهور على درجات المدخل في انتظار عرض منتصف الليل الاضافيّ. ذهبتُ وشاهدتُ الفيلم مع جمهور منتصف الليل لرصد ردود فعله. علمًا بأنّ “الإعصار” لجمهور غير سينيفيليّ، ولكن لأنّه فيلم حقيقيّ وصادق شعر الناس بأنّ ما يرونه فيه حصل معهم، قائلين بعد خروجهم من الصالة: الحمد لله أنّ الحرب انتهت.
(*) نحن في سنة 1993، أي بعد اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية.
كانت الحرب قد انتهت وليس منذ زمن بعيد. أي أنّ ذاكرتها الأليمة كانت حاضرة في الأذهان. سبعون ألف مشاهد رقم مميّز لفيلم غير ترفيهيّ يُرضي هواة السينما في المقام الأول.
(*) نصل إلى محطّة مفصليّة مهمّة جدًا في مسيرتك السينمائيّة، وحتى على المستوى الشخصي. لقاؤك بالمخرج الكبير الراحل يوسف شاهين الذي شاهد فيلمك “الإعصار” في مهرجان قرطاج وأُعجب به أيّما إعجاب فأوصى المسؤولين في شركته “أفلام مصر العالمية”، وفي مقدّمهم ابن شقيقة شاهين المنتج غابي خوري، بتمويل فيلم روائي طويل ثانٍ لك سنأتي إليه وعنوانه “دخان بلا نار”.
يوم عُرض “الإعصار” في مهرجان قرطاج، كان المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين حاضرًا ومشاركًا بفيلمه “المصير”. شاهد “الإعصار” وخرج منه مصرّحًا: شاهدت اليوم فيلمًا لمخرج شاب هو بالنسبة إليّ من ألمع المواهب الشابة في العالم العربي. شهادة كبيرة أعتزّ بها وأفادتني كثيرًا، حتى اليوم. قال لمدير شركته غابي خوري: إذا كان لدى سمير حبشي مشروع سينمائي جديد فلتموّله شركتنا. إلى هذا الحدّ آمن بقدراتي. نتيجة هذا التبنّي من الأستاذ شاهين كانت أفلام ثلاثة: “دخان بلا نار” فيلم روائي طويل، و”سيدة القصر” فيلم وثائقيّ، واليوم “حسن المصري” الذي تنطلق عروضه بعد بضعة أيام في مصر ولبنان والعالم العربي.
(*) أنجزتَ فيلمك الروائي الطويل الثاني “دخان بلا نار” في ظروف إنتاجية مريحة، مختلفة عن تجربة “الإعصار” الصعبة. هنا وقفت شركة يوسف شاهين وراءك وأمّنت لك لرأس الملصق النجم المصري خالد النبوي، أَحد الممثلين الأثيرين لدى شاهين وبطل فيلمه “المهاجر” ليكون بطل “دخان بلا نار”. ماذا عن تجربتك في هذا الفيلم الذي منحته بالإنكليزية عنوان “بيروت مدينة مفتوحة” تحيّةً لإحدى تحفات السينمائيّ المعلّم روبرتو روسّليني “روما مدينة مفتوحة” الفيلم – المنارة في “الموجة الجديدة الإيطالية” لحقبة الحرب العالمية الثانية؟
“دخان بلا نار” يحاكي تحفة روسليني لأنّ بيروت أيضًا كانت في الحرب “مدينة مفتوحة”. رغم أنّ سنين طويلة مرّت بين “الإعصار” و”دخان بلا نار” فإنك تشعر بأنّ هذا الأخير تتّمة للأوّل. فإذا كان “الإعصار” تناول الحرب بين 1976 و1990، فإنّ “دخان بلا نار” تناول مرحلة ما بعد الحرب بين 1990 و2005، ليعكس مشاكل الحياة اللبنانية وتناقضاتها.
(*) نلحظ أنّ موضوع الحرب شكّل لك موضوعًا مؤرّقًا تؤوب إليه باستمرار.
صحيح. لا يتيح لك الواقع اللبناني معالجة قصة حب، مثلًا. إنها مشكلة ساخنة لا نستطيع الخروج منها أو تجاوزها. نواجه الواقع ولا نهرب منه. “دخان بلا نار” يسجّل زمن ما بعد الحرب، خلال خمسة عشر عامًا، وبخاصة الإعلام الزائف الذي يُحرّف الوقائع والحقائق، ويستمرّ في ذلك حتى هذه الساعة. فكّرت أنّني لو لم أُنجز هذا الفيلم فإنّني أصمت عن التاريخ المزوّر. من هنا كان اختياري عنوان “دخان بلا نار”، إذ لطالما كان يتردّد مَثَل “لا دخان بلا نار”، فجئت للقول: بلى، هناك دخان بلا نار، أي الحقيقة المزوّرة. يخترعون في الإعلام الراهن سيناريوات غير مبنيّة على وقائع. خذ مثلًا صعود الحركات المتطرّفة التي تسمّى بالإرهابية، مثل “القاعدة” و”داعش”. في يقيني الشخصيّ، لو لم تكن هناك القضيّة الفلسطينية لما كنتَ رأيت ذلك كلَّه. ما يحصل يعود سببه بالكامل إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. إنّه ما يجعل بيئات كهذه تنبت. في فيلمي كنت أغمز في هذا الاتجاه.
الدراما التلفزيونية تقترب كثيرًا من السينما
(*) بعد هذه المرحلة السينمائية الناجحة والملفتة، رأيناك متوجهًا نحو صناعة الدراما التلفزيونية مخرجًا لعدد كبير من المسلسلات، لماذا؟
بعد مرحلة الشباب التي تكون فيها سينمائيًا متحمّسًا لا يقبل العمل في التلفزيون، تأتي مرحلة دراسة أرض الواقع فتغدو واقعيًا وتحدّد موقعك. تفكّر: هذا لبنان، سكّانه لا يتجاوزون الخمسة ملايين ولا يستطيعون خلق صناعة سينمائية. يحتاج الفيلم إلى جماهير كبيرة عددّيًا، كمصر مثلًا. إلّا إذا توافرت مؤسّسات تدعم السينما، أو إنتاج مشترك، وهذا الأخير لا يُعدُّ قاعدة ثابتة. كلٌّ يتدبّر إنتاجه منفردًا. أنا مع شركة يوسف شاهين، والآخرون مع جهات أخرى. لكن ذلك لا يخلق استمرارية للسينما الوطنية التي يكفلها إنشاء صندوق دعم للمشاريع السينمائية، كما هي الحال في أوروبا، وحتى في تونس حيث ثمة صندوق دعم للسينما أنشئ منذ عقود طويلة. لديّ سيناريوات سينمائية جاهزة تنتظر الإنتاج الشجاع الذي لا يضع شرط الفيلم المرغوب من الجمهور ويضمن إقباله. الفيلم المسلّي أو الترفيهيّ لا يعنيني. وبين الفيلم المسلّي المنجز لشبّاك التذاكر والدراما التلفزيونية آثرت هذه الأخيرة، وتتضمّن أحيانًا مواضيع تثير حماستك. اليوم اقتربت الدراما التلفزيونية كثيرًا من السينما. كبار مخرجي العالم يعملون للتلفزيون اليوم، ولا شيء معيبًا في المسألة.
(*) بل أرى شخصيًّا أنّ قدوم المخرج السينمائيّ إلى عالم الدراما التلفزيونية يُغني هذه الدراما ويرفع من شأنها ومن لغتها. إنّه يسخّر عينه في خدمتها.
تمامًا، هذا ما يحصل في العالم بأسره. كنتُ من أوائل الذين اعتمدوا تصوير المسلسلات مثل السينما، بكاميرا واحدة، ما أثار استغراب البعض. سمعة السينمائيين أنّهم بطيئون إذ يدققون في كل تفصيل. ولكن لدى النزول إلى ميدان التلفزيون تتحوّل إلى مخرج أكثر واقعيةً وتناغمًا مع ظروف الإنتاج والسرعة المطلوبة في التنفيذ. ثم إنّ مشاهد السينما في الصالة هو غير مشاهد التلفزيون في منزله، فهذا الأخير يستمع إلى الحوارات الكثيرة أكثر ممّا يشاهد. السينما تجتاح العقل والعين لا الأذن. يأتون بفيلم أميركي مدّته ساعتان وينسجون منه مسلسلًا من ثلاثين ساعة قائمة على الحكي والحوارات.
(*) نصل إلى تجربتك الأخيرة التي تسجّل معها عودتك إلى السينما، فيلم “حسن المصري”، من إنتاج غابي خوري مدير شركة “أفلام مصر العالمية”، والذي يبدأ عرضه في الصالات المصرية والعربية بعد بضعة أيام.
للمرّة الأولى أُنجزُ فيلمًا ليس من تأليفي. اقترح غابي خوري السيناريو عليّ وقرأناه عشرات المرات لإدخال تعديلات جمّة عليه حتى غدا مقنعًا لنا بدءًا قبل إقناع المتفرّجين. صحيح أنّ فيه جرعة من “الأكشن” غير أنّه مبنيّ في المقام الأول على المشاعر الإنسانيّة. الدراما عنصر أوّل. دافعي الأساسيّ لإنجاز هذا الفيلم هو اشتياقي الكبير إلى السينما، فخضت التجربة الجديدة المصوّرة بين القاهرة وبيروت بحماسة عالية تعيدني إلى لقاء جمهور الصالة السينمائية. في الفيلم ممثلون ممتازون، في مقدّمهم الممثل المعروف والقدير أحمد حاتم. لم أكن أعرفه. تعرّفت إليه خلال التحضير للفيلم، علمًا بأنني لست من المولعين بالنجوم. بمجرّد لقائي به عدّلت أمورًا كثيرة في السيناريو. إنّه ممثل يدهشك، يضيف إلى الدور. كذلك الممثلة اللبنانية ديامون بوعبود، وهي من الأفضل عندنا. كما أغنت الفيلم كثيرًا صورة مدير التصوير ميلاد طوق، أحد أمهر مديري التصوير في العالم العربي وخرّيج معهد VGIK في موسكو، ورفيق رحلتي السينمائية منذ البداية حتى اليوم. المنتج غابي خوري أصرّ على تولّيه إدارة التصوير كما في الإنتاج السابق “دخان بلا نار”. فيلمي الجديد هذا أعتبره فيلمًا مصريًّا صنع في لبنان.
(*) ختامًا، أيّ مشاريع تملك مستقبلًا تعيدك إلى سينما المؤلّف الذاتيّة التي تؤثرها على ما عداها.
لديّ عدد من المشاريع التي قد يكون إنتاجها صعبًا، ومع ذلك آمل في العثور على الإنتاج الملائم لها. ثمة فكرة فيلم جديد قيد الدراسة مع “أفلام مصر العالمية”.