لا يمكن للكاتب أن ينفصل عن واقعه، خصوصًا وأنّ الأدب عملية كشف عن هذا الواقع وتأثير وتأثّر بالأوضاع الاجتماعية والسياسية.
في هذا الإطار وانطلاقًا من الحروب التي حدثت في المنطقة، وخصوصًا الحرب الأحدث التي شنّها العدو الإسرائيلي على غزة ثمّ على لبنان، فكّرنا في إشكالية الأدب والحرب أو “أدب الحرب” الذي يفسح المجال للتعبير عما يعيشه ويوثّقه الكاتب خلال هذه المرحلة، ويكون شاهدًا على التدمير والمعاناة والمآسي التي يعيشها الناس.
في هذا الملف آراء ومساهمات لمجموعة من الأدباء والمبدعين حول هذا الموضوع، وهم: زاهي وهبي، وفاطما خضر، وكاتيا الطويل، وجواد العقاد، وحنان فرفور، وهالة نهرا، ونبيل مملوك، وزكريا شيخ أحمد، ورأفت حكمت.
زاهي وهبي (إعلامي وشاعر لبناني): ما يحدث يفوق الوصف
ما معنى الكتابة في خضمّ المذبحة؟ وما جدوى الحبر حين يُسفَك الدم ويسيل؟ وأيّ لغة تسعفنا على وصف الهمجية الإسرائيلية المتمادية من فلسطين إلى لبنان؟ ثمّة علامات استفهام كثيرة تدور في الرأس كلّما همّ الكاتب بالكتابة. فما يحدث يفوق الوصف، ويتجاوز مقدرة الكلمات على التعبير عنه.
كل تلك الأسئلة التي تعصف في الرأس لا تعني أبدًا أن لا شأن للغة في ما يجري، أو أنّ الكلمة في إمكانها أن تنأى بنفسها. لكنّها أسئلة مشروعة حين تكون الجريمة مروّعة إلى هذا الحدّ. كيف نرتقي بالكلمة إلى مستوى ما يحدث؟ وكيف نعبّر عمّا يختلج في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس؟ وكيف نتجنّب أن تكون نصوصنا مجرّد إنشاء انفعالي وكلام عاطفي يذهب مفعوله بمرور الوقت؟ وهل الكتابة الملتزمة هي فقط الخطابية المباشرة واللحظوية وليدة العاطفة والانفعال؟ أم أنّ النصّ الملتزم يذهب أعمق من ذلك بكثير؟
ما نأمله ونتوقّعه هو أن تولد من رحم هذه المواجهة الضارية مع المحتلّ الإسرائيلي نصوص إبداعية ترتقي إلى مستوى الحدث وتحتفظ بشروطها الفنية والجمالية، إذ لا يمكن لأي كاتب حقيقي، ولأي مبدع أيًا كان ميدان إبداعه أدبًا وفنًا وفكرًا، أن يصمت حيال ما يجري، أو ينأى بنصّه بعيدًا من هذه اللحظة التاريخية المضطرمة.
صحيح أنّ الكتابة الإبداعية تحتاج مسافة زمنية بينها وبين الحدث، لكنّ ما يحدث لا يمكن الصمت حياله أبدًا. فما معنى الكتابة الآن إن لم تكن منحازة للضحية ضدّ الجلّاد، وللقتيل ضدّ القاتل، ولأصحاب الحق في مواجهة الاحتلال الباطل.
فاطِما خضر (شاعرة ومترجمة سورية): لا يمكن للأديب أن ينفصل عن واقعه
بالطبع لا يمكن للأديب أن ينفصل عن واقعه، بل يكاد يكون أكثر من يلتصق به، لأنّه معنيّ بتجسيد هذا الواقع وتصويره من خلال نتاجه الأدبي، ليكون بمثابة وثيقة تحفظ ما جرى خلال مرحلة ما، وحكاية تحكي معاناة أو فرح الإنسان خلال تلك المرحلة، وليبقى هذا النتاج شاهدًا على تاريخ شعوب وحضارات.
نقل الشعراء عبر قصائدهم منذ العصور القديمة الواقع المعاش في وقتَي السلم والحرب، وفيما يخصّ الحروب، فقد عرفنا حروبًا شهيرة من خلال القصائد مثل: حرب البسوس، وحرب داحس والغبراء… إلخ، وتُعتبر الإلياذة والأوديسة أهمّ قصيدتين ملحميتين في اليونان القديمة. ومع تغيّر الحياة وتطوّرها وصولًا ليومنا هذا، باتت حتى الأغنية الملتزمة شاهدًا على الحروب وأنواعها ومجرياتها، فعلى سبيل المثال لخّصت فيروز الحرب الأهلية في لبنان عندما غنّت أغنية “شادي”: (بيوم من الإيام ولعت الدني… ناس ضد ناس علقوا بهالدني… وصار القتال يقرّب ع التلال… والدني دني… -حتى نهاية الأغنية-).
بالنسبة إليّ كان كتابي الشعري الأول الصادر عن منشورات مرفأ في بيروت، والذي حمل عنوان “يبدأ الحزن رحيمًا”، انعكاسًا لما شهدته خلال سنوات المحرقة السورية التي بدأت عام 2011، والتي تحوّلت مجرياتها لحرب أهلية رفض الكثيرون الاعتراف بها على هذا النحو، وقد احتوى الكتاب على ثلاثة أبواب حملت عناوين تلخّص نتائج الحرب سواء على الصعيد الشخصي لأيّ سوري، أو على الصعيد العام: الفقد، الخذلان، الحزن. تناولتُ في بعض القصائد الحرب بشكل مباشر، في حين ضمّنت في قصائد أخرى آثار الحرب سواء المادية (طوابير الغاز، انقطاع الكهرباء، التضخم الاقتصادي، الفقر… إلخ)، أو النفسية (الفقد، الخذلان، الحزن) بدون التطرّق لمفردة الحرب مباشرةً، إضافة لعدّة قصائد بعيدة عن موضوع الحرب الذي لم أتناوله في قصائدي وحسب، بل في العديد من مقالاتي المنشورة.
وبالعموم، أعتقد أنّ الكاتب لا يستطيع أن ينأى بنفسه وبنتاجه المكتوب بعيدًا عن الحرب إن أصابت بلده وطاولته شخصيًا، ولذلك ظهر أدب الحرب الذي لم يقتصر على الشعر طبعًا، بل شمل أيضًا المسرح والرواية والقصة وحديثًا النوفيلا.
كاتيا الطويل (باحثة وأستاذة جامعية لبنانية متخصّصة بالنقد الأدبي): الأديب مرآة…
قال أحد رجال السياسة في القديم إنّ دخول الحرب كدخول غرفة معتمة، لا أحد يعرف ما فيها ولا أحد يعرف علامَ سيقع بعد المرور عبر الباب. لا المحاربون يعرفون ولا القادة ولا الأعداء ولا الحلفاء ولا النساء ولا الأطفال ولا حتى الأدباء، لكنّهم يدخلون جميعهم الغرفة ويتلقّون تبعات هذا الدخول وهذه العتمة.
وإذا توقّفنا عند الكاتب ونشاطه الفكري وسط هذه المعمعة والجلبة المعتمة لوجدنا أنّه هو الآخر مسكون بما يحيط به، ولوجدنا أنّ كتاباته متأثّرة بالحرب وكذلك نصوصه وأفكاره وأساليبه. يتلقّى الأديب صفعة فكرية وعاطفية بدخول بلاده الحرب، يعجز عن التفكير وعن الكتابة للوهلة الأولى، ليتمكّن من استيعاب العتمة التي يدخلها والعنف الذي يشهد عليه. إنّما بعد زوال الصدمة الأولى تختلف ردّة الفعل باختلاف المدرسة التي ينتمي إليها الكاتب.
الأديب الحكواتي السارد للقصص والمجتمع سيسرد محيطه ومآزقه ومعاركه، والأديب الثابت الذي يؤمن بالمجتمع والإنسان والأدب سيكتب بغزارة، سيكون مرآة القصص والوجوه والحرب. سيخلق هذا الصنف من الأدباء أدب الحرب. أمّا الكاتب العبثي المتشائم فسيتقوقع في العتمة وسيندب الإنسانية ويلوم القدر لتتحوّل قدرته على الإبداع إلى نعي للبشرية لأنّ الموت بات بين أصابعه نفسها وبين أصابعه والقلم. وأدب هذا الصنف الثاني من الكتّاب نادر ويكاد يكون من الذهب الخالص، فيه الروح البشرية بتجلّياتها القاتمة.
يقول جان بول سارتر إنّ الأغنياء يبدؤون الحرب والفقراء يموتون فيها، فماذا بشأن الكتّاب؟ أين هم؟ صحيح أنّ الأدب مرآة المجتمع والكاتب الذي يعيش مجتمعه حربًا وصراعًا سيتلقّى هذه الحرب وهذا الصراع وسيصهرهما بين أصابعه ليحوّلهما إلى أدب خاص فيه يروي الألم والبؤس والقسوة والوحشية والعنف… إنّما كيف ينتج إنسان مطبوع من الداخل بعملية الموت، والكتابة بذاتها هي فعل داخلي وجداني بامتياز؟ سيصاب الكاتب بلوثة الحرب والقهر والتعذيب أينما كان من القتال ومهما كانت مواقفه، إنّما يبقى أن يعرف كيف يوظّف أدبه في الغرفة الكبيرة المعتمة، أيحوّله شمعة تضيء زاوية صغيرة من الغرفة تجعل الآخرين يتحلّقون حوله، أم يحوّله نارًا تلتهمه وتلتهم الغرفة بمن فيها؟
جواد العقّاد (شاعر فلسطيني): الكاتب مقاتل بالضرورة
الأدب يظلّ مرآة للروح الإنسانية، نافذة نطلّ منها على الصراع والظلم والأمل المتجدّد. فالأديب الحقيقي لا يصنّف الأدب بصرامة، بخاصة حين يتعلّق الأمر بأدب الحرب أو الأدب الملتزم، لأنّ الأدب بطبيعته يرصد المشاهد الإنسانية ويعيد صياغتها بصورة متوهّجة تُحدِث أثرًا جماليًا وتُسهم في إيقاظ الوعي.
فالكاتب، بهذا المعنى، هو مقاتل بالضرورة يسعى إلى التغيير، ويدخل معركته مسلّحًا بفهم عميق للعالم والقضايا وجوهر الصراعات، ليندمج اندماجًا كاملًا في التجارب الإنسانية والنضالية. هذا النمط من الأدب لا يموت، بل يمتدّ تأثيره عبر الأجيال بلا حدود زمنية أو مكانية، فهو أدب يتبنّى القضايا الكبرى ويدافع عنها، ولا ينكسر أمام الصعاب بل يظلّ حيًا في ذاكرة الأمة.
الأديب لا يعيش بمعزل عن واقعه، بل هو أوّل من يستشعر الخطر ويقاوم، فهو يتنفّس آلام مجتمعه ويستشعر الخطر كأوّل مَن يواجه ويقاوم، كاشفًا الحقيقة ومرسّخًا الأمل. هو مقاوم بطبيعته حتى وإن أودى به إيمانه بقضيته إلى الموت. فمن يضع نفسه قائدًا وصانعًا للوعي لا يعرف الاستسلام، بل ينهض دائمًا من بين الركام ليحلّق في فضاء الأمل. الألم الشخصي، مهما اشتدّ، يتحوّل إلى شرارة توقظ الثورة وتجعل الأمل يرفرف كطيور الحرية فوق الخراب، وهذا ما تجلّى في عنوان مجموعتي الشعرية “أقود الطيور من المذابح” التي كتبتها تحت وطأة الحرب.
خضت معركتي الشخصية بالكتابة، حيث سردت تفاصيل ألمي اليومي شعرًا ونثرًا، وأنا واثق من أنّ هذه الكتابات ستشكّل جزءًا من ذاكرة الفلسطيني الذي عايش الوجع عبر الأجيال. وبرغم لغة القهر التي عاشها كل فلسطيني في ظلّ القمع والمعاناة، إلا أنّني أصرّ على لغة الحرية والأمل، لأنّ اليأس يقتل الإبداع ويجهض القضية.
الكتابة بالنسبة إليّ فعل وجود، هي الجمرة التي لا تنطفئ، والسلاح الذي لا يصدأ. هي تفسير الحياة، ومعركة طويلة ضدّ العدم تتطلّب تسليحًا بالأمل برغم عتمة المرحلة وظلام النفق الذي قد يبدو بلا نهاية. فما بين الأمل والوهم هناك فرق جوهري، والأديب هو الذي يُبقي على الأمل حيًا، ليكون شاهدًا على الحقيقة وحاملًا لراية الوعي.
حنان فرفور (كاتبة وشاعرة لبنانية): نكتب وفاءً للضحايا
لا أحاول هنا أن أكتب نصًا مبهرًا، ولا كلمات مؤثّرة، ولا أن أؤسّس لبناء فكري، فماذا يمكن للأدب في نهاية المطاف أن يشيّد في الأجساد والأرواح المهدّمة، وفي العقول التي شلّها الخوف والحزن والفقد؟
وعن أيّ دهشة نتحدّث وقد رأى الناجون من أتون الحرب أهوالًا لن تفارقهم أبدًا، فمهما أبدع الشاعر، الروائي والرسام والموسيقي، كيف سيصف شعور أب يحمل أشلاء بنيه في أكياس بلاستيكية، ويطلق صرخته باتجاه الفراغ؟! وهل أبلغ من أنين شاب يُحرق حيًا بقنابل الفوسفور، مباشرة على الهواء وعلى مرأى العالم الصامت؟ وهل أفجع من أمّ تغمض ما تبقّى من جفني وحيدتها التي جاءت بعد أعوام من الدعاء ومن العلاج وأُبَر التخصيب؟ هل سيخفّف نصّي من ثقل الصغير فوق ظهر أخته الطفلة، وهي تجرّ قدميها الحافيتين، ويُتمها وجوعها من مركز إيواء لآخر؟
لقد تجاوزنا يا سادة ما يُعرف علميًا بـ”عتبة الإحساس”. نحن أبناء الحروب وورثتها الشرعيين، الذين نحملها أو تحملنا ندبةً في الجينات المدخّنة، وفراغًا في المسامات المهيّأة دومًا لعناق طارئ مع غارة طائشة، نحتاج إلى نوع مختلف من الأدب، خارج التصنيف، لقد أعاقت الحرب قدرتنا على التأثّر، ورفعت سقف توقّعاتنا، لم يعد الخيال ما نصبو إليه، فما الذي يريده أبناء الحروب، المنتسبون لسلالة المجزرة، العابرون في هوامش الحياة التي يعيشها الآخرون بترف، من الأدب؟ ولمن يكتب المبدعون منهم؟ وهل يملك هؤلاء رفاهية القراءة أصلًا؟
ليس انقسام العالم بين معسكرين متناحرين، ولا انفصامه جديدًا، ولا انحياز سكان هذا الكوكب لقيم الإمبراطوريات الحاكمة وقوى الاقتصاد المهيمنة طارئًا، لطالما حكمت سردية من يمتلك المال والسلاح واللغة، فالرواية التاريخية تكتسب مصداقيتها وتأثيرها لا من واقعية الأحداث ونزاهة الراوي، بل من براعته في التسويق ونفوذه في الإعلام وسطوته على الكتّاب وعلى آلية الكتابة نفسها، لذا يصبح أدب الحرب ضروريًا لنا نحن الذين نعيش بين الرحى، ونتناسل في الهُدَن الإنسانية بين إبادتين.
لذا الكتابة عن الحرب، الأكثر والأوفر، فلا يكاد يخلو نصّ إنسانيّ حقيقيّ من ظلال الحرب، بدءًا من كتابات هوميروس إلى همنغواي وجورج أورويل وأندريه مالرو، إلى ميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عواد، إلى محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع والماغوط ورياض الصالح الحسين، وأنسي الحاج وعصام العبدالله ومفدي زكريا، وعشرات الروائيين والشعراء الذين كتبوا في الحرب، لأنّ “صوت العيارة” لا يصل، ولأنّ الزمن شاهد زور على غير ما اعتقدنا طويلًا!
نحن نكتب وفاءً للضحايا، وليسمع العالم وجهة نظر القتيل لا القاتل، ولنرافع في محكمة العدل المفقود عن الجرح لا السكين، وعن العشب المُداس لا جنازير الدبابات المدجّجة بشرعة حقوق مزوّرة! نحن نكتب لأنّ ما أُسقط عمدًا من التاريخ، نجده في القصائد، والروايات، ونحن على قلّتنا اليوم لا نواجه سلاح الإبادة الجسدية والتصفية الحضارية وحسب، بل نقف بدافع أخلاقيّ وإبداعيّ في وجه الذين كانوا منّا وكنّا منهم، ثمّ زيّفوا الحبر ليرضى زيوس إله الحرب ويقرّبهم من ملكوته الدموي ومن ماكينته الإعلامية الضخمة، نحن نكتب لأنّنا أبطال قصّتنا التي ستنتصر حتى لو متنا في نهاية فيلم أميركي متوحّش وطويل!
هالة نهرا (كاتبة وشاعرة لبنانية): كتابة الأدب في زمن الحرب هي الأصعب
بوصفي شاعرة وكاتبة، وعلى اعتباري مواطنة لبنانية، وإنسانة في المقام الأوّل، أقول إنّ كتابة الأدب في زمن الحرب هي الأصعب؛ فكيف تكتب يدُ الأديب والروائي والشاعر والكاتب وهي عالقة تحت الركام أو فيما يكون الإنسان هاربًا تحت وابل القصف أو نازحًا ومهجّرًا أولويّته النجاة وصون حياته وحياة أحبّته، والسعي إلى تأمين مقوّمات الحياة الأساسية، لا سيّما في ظلّ انهيار لبنان المتعاظم على الصُّعُد كافة.
ليست الحرب الأولى التي نعاني في لبنان من أهوالها، فقد خُطفت طفولتنا وأعمارنا في الحرب الأهلية الطاحنة. ومن جهة أخرى، فإنّ العدوّ الإسرائيلي الوحشي الهمجي شنّ حروبًا علينا قبل الآن. تاريخنا محتشد بالمآسي والويلات، ولاوعينا زاخر بالصور والمشاهد المرعبة. لذلك فإنّ كتابة الأدب لا تكون بالضرورة لحظية آنية فورية، قد تظهر وتتمظهر لاحقًا كتابات أدبية وشعرية إبداعية ناضجة تُوائم بين ومضات من خزين اللاوعي وتراكماته وتطلّعات الذات الواعية من جهة، وبين الذات الفردية والجمعية من جهة أخرى، لا سيّما أنّ الكاتب هو ابن بيئته ووطنه وابن الإنسانية جمعاء.
كاتب الأدب المثقّف في ظلّ الحرب ليس شاهدًا عاديًا على الخراب والموت والأسى، ومهمّته لا تقتصر على التوثيق بمعناه الكلاسيكي المتعارف عليه الذي بإمكان الإعلامي أن يقوم به، وليس كاتب الأدب مؤرّخًا بالمعنى التقليدي، فقد يُزاوج بين كل ذلك بصورة غير مباشرة في جملة شعرية ترتكز على المجاز، أو في نصّ نثريّ أو رواية، إضافة إلى كون الأدب يتدثّر برسالة إنسانية سامية، وبحدس رؤيويّ أحيانًا، ويحمل موقفًا – مباشرًا أو غير مباشر- من العالم والوجود.
في مقدّمة ديواني الشعري “أمنح شعوبي أسمائي الـ7” كتبتُ على سبيل المثال أنّ الشعر محاولة إبداعية تهدف إلى إعادة اختراع العالم وإعادة إحيائه على أسس جديدة أكثر إنسانية ورحمة ورأفة وعدالة، وأكثر تشقّقًا عن فوران النور. الشعر والأدب أيضًا علامة، وأجنحة للفكر، وهما كذلك استحضار واستشراف أحيانًا، ومرتجى حتى لو في مغطس اليأس!
نعيش حاليًا أحداثًا وظروفًا صعبة ومؤلمة للغاية، ونتطلّع إلى تجلّي الفرج وأحوال آمنة وحياة كريمة لنا ولشعبنا، ولشعب فلسطين وشعوب عالمنا العربي والعالم.
حبّذا لو ينقرض سيكوباتيّو ونرجسيّو الأرض؛ أسياد القوّة والبطش والآثام. حبّذا لو توفّر القوى المسيطرة على العالم الأموال الطائلة التي تُنفَق على السلاح والحروب والاحتلال والمجازر والإبادة والسيطرة للتقدّم العلمي بما يفيد الإنسان والشعوب والإنسانية جمعاء، والقضاء الكلّي على الفقر والمرض في كل العالم بدلًا من القضاء على الفقراء والمساكين والضعفاء، وبما يخدم التنمية المستدامة، والتثقيف، والتنوير، والتطوّر في كنف الإخاء الإنساني. ثروات الأرض غزيرة تكفي كل شعوب الأرض وتفيض دومًا. هذا الجنوح لدى هؤلاء المجانين يحوّل الأرض إلى جهنّم الحمراء، فيما يمكن للأرض أن تكون جنّة بكل بساطة وسهولة. نتوق إلى السلام على قاعدة الحق. هل تبقى كوّة في جدار العالم المتراصّ لصوت الحكمة الإنسانية المتكثّفة أيضًا في الأدب الإنساني؟
نبيل مملوك (ناقد وصحافي لبناني): الحرب تجعلنا نبدع أدبنا الخاص
الكتابة لا تحتاج إلى تأطير ولا إلى معادلات كي تولد، وهي السائل الذي توغّل في عقول العديد من المبدعين في ظروف وعوالم مختلفة دون استئذان، أمر يعيدنا إلى ما أفصح عنه الشاعر السوري الراحل نزار قبّاني في كتيّبه “خمسون عامًا من الشعر” حين شبّه الكتابة بالحمّى المفاجئة.
سواء كنّا في حرب أو في سلم، الأدب هو اللحم الذي يكشف جراحنا ولحظاتنا العصيبة، ويحفظ ذكرياتنا المتألّقة العصيّة على النسيان.
اليوم ونحن نعبر بصعوبة أكثر من 45 يومًا من الحرب السابعة على لبنان، باتت الكتابة عنصرًا رديفًا للرصاص، للصاروخ، للبندقية، الكتابة فعل بقاء وتحثّ المبدع على البحث عن ذاته أوّلًا وعن الموجود والمحيط الذي ينتمي إليه ثانيًا، في هذه الحرب كانت الكتابة محاولة لإنقاذ ظلالنا من براثن النسيان، قرّرت كتابة يومياتي لكي لا يركل النسيان رأسي، كي تبقى التفاصيل مخزّنة في ذاكرة الورق، رسمت كل تفاصيل المدينة، هجرة ناسها، نزوحهم، وعتمتها.
يصبح الأدب في الحروب بوتقة للغة مرهقة، لحروف تائهة، لعلامات وقف تخشى من مواجهة المزيد من الجمل الخبرية التي تحمل تفاصيل عن الدمار والركام والشهداء ومؤخّرًا عن البلدات التي أبيدت بالكامل من قِبَل عدوّ إسرائيلي لا يملك معنى من معاني الإنسانية.
اليوم بدأت الكتابة تطوّق مناعتنا الهشّة، تساعدنا على تناسي نزيفنا، تناسي من فقدناهم وتناسي من يذرفون حنينهم إلى بيوتات صارت غبارًا، الكتابة منعت عنّي نوبات عاطفية كثيرة، منعت الموت بأن يتكاثر على شكل عجز أو دمعة أو انكسار… كلّما كتبت عن مشهديات الحرب أشعر أنّي تجاوزت غيمة سوداء، تجاوزت شتاءات كثيرة بسبب حرف، كلمة، جملة منعت انفجارات في رأسي… أن تكتب عن مدينة يلتهمها حوت الرماد وتتأمّل بأن تصبح جنّة تتنافس عليها السماوات والأرض.
أكتب هذه المدوّنة لا لأحاول ربط الأدب بالحرب أو ربط الحب والرغبة بل لأقول إنّ الحرب تجعلنا نخلق أدبنا الخاص، شكلنا الكتابي المختلف، أكتب لأنّ الأدب لن يرتبط على الأرجح بالحرب، الأدب ضفّة سلام، ترسم خرابنا لتحرّض على تجاوزه.
زكريا شيخ أحمد (شاعر وروائي وموسيقي كردي سوري): كلّ الحروب تؤلمني
“كلّ الحروب تعنيني، كلّ الحروب تؤلمني”. هاتان الجملتان هما مقدّمة لنصّ شعريّ كتبته قبل عشرات الأعوام. إنّهما تعبّران عن تلك الرابطة العميقة التي تربطني بآلام العالم وأوجاعه. الحرب هي التي جعلتني أدخل عالم الكتابة؛ فكان أوّل نصّ لي عن مدينة حلبجة التي تمّ قصفها بالكيماوي من النظام العراقي الصدّامي.
أنا أتنفّس حبرًا ينسكب من جراح الناس. كلّ حرب تدور في مكان ما على الأرض تترك أثرًا لا يُمحى في قلبي وروحي، وكأثر الفراشة الذي يُقال إنّ الفراش قد يحرّك جبال الهملايا بنفحة خفية من جناحيه، فكيف إذًا بالحروب التي يُلقى فيها ما لا يُحصى من القنابل والصواريخ؟! إنّها لا تترك أثرًا خفيًا أو هادئًا، بل تخلّف دمارًا يهزّ جبال الإنسانية بأكملها.
الكاتب هنا ليس مجرّد ناقل للأحداث، بل هو كائن حسّاس يعيش كلّ تجربة بعمق، ويجعلها جزءًا من هويته وكتاباته. الحروب، بكلّ ما فيها من عنف وألم، تضعه أمام سؤال وجودي؛ أيكون شاهدًا صامتًا، أم يرفع صوته ضدّ الدمار؟ الكتابة، بالنسبة إلى الكاتب، هي صرخة ألم وصدى لمأساة عابرة للحدود، حيث يؤمن أنّ الألم لا يعرف الجغرافيا، وأنّ كلّ جرح في أيّ بقعة من العالم هو جرح يثقل كاهله، ويزيد حبر قلمه كثافة وحدّة.
الأدب هنا يصبح مرآة تعكس قسوة الواقع، ومساحة يعبّر من خلالها عن أوجاع الناس الذين لا صوت لهم. إنّ الأدب قادر على تحويل هذه المعاناة إلى صور وكلمات تَبقى، تُبكينا اليوم، وتُذكّر الأجيال القادمة بالظلام الذي مرّت به الإنسانية، وبالقلب الشاعر الذي رفض أن يكون في معزل عن ذلك الألم.
أن تكون شاعرًا يعني أن تقضي كلّ حياتك في ساحات المجازر.
أن تكون شاعرًا يعني أن تلتقط دائمًا، وبصعوبة بالغة، أنفاسك المتسارعة.
أن تكون شاعرًا يعني أن تتداخل مع الحبّ، ومع الوجع، ومع الألم، يعني أن تتداخل مع ماهية الأشياء وذاتها.
أن تكون شاعرًا يعني أن تترك الظلّ، وتجلس تحت شمس ظهر حارقة، لتتداخل مع أصابع حسناء تصفّف بها شعرها أمام مرآة عامّة.
أن تكون شاعرًا يعني أن تسمع صوت الصمت، وصوت كلّ شيء في زحمة هذا العالم.
أن تكون شاعرًا يعني أن تتشعّب روحك لملايين الشُّعَب، وتغادرك لتؤنس نبتة صبّار باتت وحيدة في أقصى الصحراء.
أن تكون شاعرًا ينبغي لروحك أن تظلّل خيم اللجوء لتحميها من شمس منتصف الصيف، وتستطيل سقفًا أو سدًا يمنع تسرّب المطر أثناء الفيضانات.
أن تكون شاعرًا يعني أن يحبّك قليل من الناس، ويكرهك الكثير الكثير منهم.
أن تكون شاعرًا يعني أن تحبّ الكثير من الناس، وتكره القليل منهم، كأن تكره الطغاة مثلًا.
أن تكون شاعرًا يعني أن تكون وطنًا لكلّ إنسان لا وطن له.
قبل أن تكون شاعرًا يجب عليك أن تكون أوّلًا، وثانيًا، وعاشرًا، ودائمًا، إنسانًا.
رأفت حكمت (كاتب وشاعر سوري): لا صوت يعلو على صوت الانتصار الدائم للمدني/الضحية
أودّ فيما يتعلّق بالموضوع المطروح، أن أشير من وجهة نظر شخصية، وربما تكون عامة أو متّفق عليها، إلى أنّ مصطلح “أدب الحرب” هو واحد من أكثر المصطلحات التي لا تفقد مع الوقت قدرتها على الإشارة إلى معادل مهمّ جدًا، لخلق التوازن بين المفقود بسبب الحرب، والمكتسب بسبب الأدب الناتج عن كوارثها. وذلك بطبيعة الحال، لأنّ الحروب لم تكن، ولا في أي مرحلة من مراحل التاريخ، مستحدثة.
وعندما أقول “مع الوقت” فهذا لا يعني الوقت ذا المدى القصير، إنّما تمامًا، عشرات السنين.
لا بدّ للحروب كما تنتج في متونها قتلى ومجازر، أن تنتج أيضًا على هوامشها فنونًا، وآدابًا مختلفة. تتنوّع وتختلف بحسب طبيعة الحروب وقسوتها وطول المدّة التي تستمرّ خلالها، بدون أي هدف واضح “بالنسبة لضحاياها” سوى أنّها آلة للقتل والتهجير والتدمير.
علينا، لكي نتعامل مع “أدب الحرب” بطريقة تمكّنه من أن يعالج الحلول ولو بشكل غير مباشر، أن نفهم تمامًا ما هو الشيء الأساسي الذي على الأدب بشكل عام أن يتناوله. فلا أعلم – مثلًا – مدى “الجدوى” خلال الحروب من الكتابة عن الحبّ. لكنّني أدرك إلى حدّ كبير أنّنا لا بدّ لنا ككُتّاب، وشعراء وصحافيين ومؤرّخين، أن نُبقي في مكان ممّا نكتبه، على الجوانب المهدّدة دائمًا، أن تسقط في النسيان. ومثلما لا أحد ينكر موت “المشاعر” تحت وطأة الحروب الطويلة، لا أحد أيضًا، ينكر أنّ الأدب والفنون هي بشكل من الأشكال “قبلة الحياة” إن جاز التعبير، للحفاظ على “بقايا الإنسان” في دواخلنا.
أمّا في سياق الحديث الشخصي والمختصر عن تجربتي ككاتب سوري يُعايش الحروب من أكثر من أربعة عشر عامًا، فلا أعتقد أنّ صوتًا في داخلي – منذ أوّل رصاصة في سورية حتى آخر ضحية في غزّة مرورًا بلبنان- سيعلو على صوت الانتصار الدائم للمدني/ الضحية. ذلك الصوت الكاشف دائمًا، في كل نصّ أكتبه – ولو في خفايا معانيه البعيدة- عن وحشية الطغاة وتجّار الحروب. وهذا بطبيعة الحال هو الدافع الإنساني المشترك، الكامن داخل أصغر شيء يمكن أن نتخيّله، والذي قد يكون “كلمة”.