AFP

الكاتب النرويجي جون فوس

الكاتب النرويجي جون فوس (مواليد 1959)، الذي حاز نوبل هذه الدورة، متعدّد المواهب في مجال الأدب، فهو روائي ومسرحي وقاصّ وشاعر وكاتب للأطفال، من جيل ما بعد الاتجاهات الفكريّة العدميّة، والعبثيّة والأيديولوجيّة والسورياليّة، التي سادت في أوروبا وأبعد منها، وروّادها سارتر وكامو وبيكيت ويونسكو. ومن الشُّعراء بريتون وبول إيلوار؛ بمدارسهم الاختباريةالخاضعة لأنماط كتابات تتّسم بالغموض والإبهام، ومحاولة تدمير البنى الأسلوبيّة، في مغامرات لغويّة مركّبة، وتتابع المذاهب والمدارس المتناقض

ينتمي فوس إلى جيل الثمانينات، الذي عادت فيه الفرديّة المتحرّرة من الأشكال الجاهزة والنمطيّة، ومن ريادات كلّ مدرسة، أو كلّ تعبير. وإذا كان متعدّدا في اختياراته الروائيّة والمسرحيّة، فقد سبقه كثيرون في هذا الاتجاه، مثل سارتر (فيلسوف، روائي، مسرحي)، ومثله ألبير كامو وبيكيت، ويونسكو. ومن هنا، يمكن ربطه بمن سبقوه، وفصله في الوقت ذاته عنهم، وهو ما عبر عنه بيان لجنة التحكيم في تبرير إعطائه نوبل: “كتاباته تتمحور حول القلق، وتساؤلات الموت والحياة والظروف التي يواجهها الإنسان على امتداد حياته (…) إنّه يمنح صوتا لما لا يمكن قوله، وإن أدبه خالٍ من الازدراء العدمي للعالم ويحمل قدرا كبيرا من الدفء والفكاهة”.

 

الوضوح المشعّ

والأهمّ في كلّ ذلك أن كتاباته تتميّز بالبساطة، وبـ “الوضوح المشعّ”. إنها البساطة التي يعبّر بها عن أكثر القضايا المتّصلة بالعمق، سواء في رواياته، أو مسرحه أو شِعره. فمسرحه جديد في لا جدّته. وتلك البساطة نجدها عند كبار الكتّاب الغربيين والعرب من مختلف الحقب: مورباك وأراغون وإيلوار، ونزار قباني، وأندره جيد ومالرو وإبسن وموليير وهارولد بنتر ونجيب محفوظ. لكن بساطة فوس خدّاعة، توحي بالمباشر، وتخفي وراءها كثيرا من الالتباس، والتناقضات، والتماثلات. إنّه بالفعل “الوضوح المُشعّ”، مقابل “الغموض ذي الدلالات” عند كثير ممّن جاءوا قبله. وحتى تساؤلاته الوجودية، المركّبة في معانيها، ذات إشارات، تمتزج هنا بالفكاهة وهناك المسطّحة وبالمباشره، (لكن ليست المباشرة الخاوية) بل المليئة بالانفتاحات على مجاهل الشروط الإنسانيّة.

 

  لكن إذا كانت هذه البساطة تشعّ في مسرحه ورواياته، فإنها تتسطّح أحيانا في شِعره الذي قرأنا بعضه بترجمة فرنسيّة؛ أي تبدو قصائده أحيانا فقيرة في دلالاتها، وفي صوغها. قد نقارنه أحيانا بالشاعر الفرنسي جاك بريفير، لكن هذا الأخير مليء بالغرابة، وبمسحات من السورياليّة، والسخرية والالتماع. فبريفير اختبر المدرسة السورياليّة ثم قفز منها إلى أسلوبّيته المعروفة السيّالة.

واللافت أنّ بعض النقّاد رأى في إعطائه الجائزة، لنثره النقيّ الموحي في أعماله المسرحية، (نضيف العفوية)، ويمكن إضافة هذه المواصفات إلى رواياته، وإلى مقالاته وكذلك إلى أدب الأطفال الذي أصدر منه العديد من الأعمال، فهو ابن المسرح الذي ساد بعد ظواهر المسرح العبثي، وهو ابن الرواية التي تجاوزت مدرسة الرواية الفرنسيّة في الستينات، أي المسرح “الحي” في مناقشة مواضيعه الاجتماعيّة، بشخصيات تلائم زمن ما بعد الحداثة إذا صحّ التعبير، الزمن السائل كما وصفه بعض النقّاد، أي غير المتجمّد في إرهاصات مهيّأة بشخصياتها، أو بِلُغتها، إنّه مسرح “الجميع”، من دون الشعارات الأيديولوجيّة الموجّهة.

 

انزياح عن القوالب

من هنا، يمكننا القول، إنّ فوس تمسّك بحرفيّته المُطْلقة، منزاحا عن القوالب والأنماط، مرتبطا بمتطلبات الموضوع بشخصيّاته المأخوذة من الواقع، الشخصيات التي رأى فيها محطة للتعبير عن زمن آخر، طوى أزمنة أخرى، أي زمن الأعمال النخبويّة المركّبة أو المعقّدة، أو المتطوّرة بميتافيزيقيا الأفكار والالتزامات المحدّدة، وكذلك الجمهور المحدّد. لكن لا يعني ذلك، أنّه جافى الإغماض، والبناءات المعقّدة، لكي يصبح مسرحيّا “شعبيّا”، سهل التأثّر، ضعيف التطلّب، حتى “الشعبويّة”. لكن يجب أن نعرف أنه منذ نحو ثلاثة أو أربعة عقود، خلا المسرح العالمي من قواعده التي بناها في بداية القرن الماضي، ليجد نفسه في أزمة نصّ، وأزمة جمهور، وأزمة إخراج.

كتاب للكاتب النرويجي جون فوس، الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 2023

فلا المخرج الأمريكي الكبير بوب ويلسون ما زال هو نفسه باقتراحاته الجديدة والسحريّة، ولا نصوص أنطونان أرطو وأفكاره النصّيّة والإخراجيّة بعنوان “مسرح القسوة” ولا يونسكو ولا بيكيت ولا جان جينيه، ولا ألفرد جاري (رائد المسرح العبثي في نهاية القرن التاسع عشر) ما زالوا هم أنفسهم. بل إن الأدب المقروء الذي كان رائجا في العالم، القرن الماضي، وتحوّلت تفاسيره إلى المخرج، قد انتهى. وها هو زمن ثورة الاتصالات وبروز الشِّعر الجديد في الإنترنت، ومسرح الوضوح، انتصرت على ما كان يُسمّى بالمسارح التجريبيّة. بل إنّ الحد الفاصل بين الرواية والمسرح يكاد يختفي في الكتابة المسرحيّة الأوروبيّة وسواها. فالكتابة الدراميّة المعاصرة تقترب أحيانا من السرد الخالص، ويكاد الحوار يختفي في كثير من الأعمال، بل إنّ المنحى التجريبي في المسرح العالمي والعربي يشارف على نهايته.

 

 خارج المواصفات

من هنا نقارب مسرح فوس وكذلك رواياته وشِعره. فإلى أهمّيتها وخصوصياتها، فهي نتاج خارج المواصفات التجريبيّة المغامرة، نصّا وإخراجا وسينوغرافيا وأداء. ولا تختلف رواياته عن سائر أعماله. فهي تبدأ من أبسط المواقف وتستكمل في الاتساع والإشارات، والأحداث والتساؤلات.

 

كأنّما منح لجنة نوبل لفوس اعتراف واضح بظواهر ما بعد الحداثة وافتتاح عصر جديد يتسم بالمواصفات الثقافية والتبسيط، مقابل جمهور عاد من أزمنة التنقيب عن مصائر اللاوعي، والاضطرابات والتعقيد

 

 

  فهو يتميّز بأنّه بدلا من أن ينظر من الخارج إلى الداخل، ينظر من الداخل إلى الخارج، أي العالم والقارئ، وصوته الواضح في رواياته وسواها: كأنّه نداء الصمت الداخلي الذي يعبره إلى من حوله. فلنقل إنّه يقتحم هدوء المنتظر مواضيعه؛ وهذا ما نلمسه في سباعيته: “ما الذي يجعلنا من نحن؟ “لماذا نعيش حياة واحدة لا أخرى؟”. تدور الرواية حول فنّان تشكيلي مسنّ ووحيد، على أحد السواحل النرويجيّة. هنا، ومن عزلته المفتوحة يتذكّر شريط حياته وأصحابه الوحيدين: أي جاره اسكيلو، وهو صيّاد سمك عادي، والآخر باير صاحب معرض يعيش في المدينة، في منطقة برجيس يتيس، وهو مُدمن كحول، يتذكّره لأنّه يراه قرينا له، شبيها به، يتعاقدان ويتناقشان، كلٌّ انطلاقا من شروطه حول أسئلة وجوديّة: الموت والحياة والحب، كأنّما، يقطعان بأحاديثهما لا ذكرى الماضي والموت، بل وضعيهما، وأحوالهما، وشيخوختهما… كأنّما الحديث عن الموت، يؤخّر موتهما، وكأنّ الكلام على الحبّ، يذكّرهما بماضيهما. إنه “القلق” الوجودي والميتافيزيقي والاجتماعي معا، واليأس، من دون تشعّر أو فلسفة.

هذه التأملات تدور في روايته “صباح ومساء”، حول معنى الحياة، والموت، ما بين ولادة الطفل يوهانس في قرية صيّادين نرويجيّة، ويوم آخر في حياة الصيّاد العجوز يوهانس، حياة عادية يرويها فوس ببساطة خادعة من خلال تفاصيل صغيرة تبقى في ذهن الإنسان عندما ينطفئ كل شيء حوله.

 

كأنّما منح لجنة نوبل لفوس اعتراف واضح بظواهر ما بعد الحداثة وافتتاح عصر جديد يتسم بالمواصفات الثقافية والتبسيط، مقابل جمهور عاد من أزمنة التنقيب عن مصائر اللاوعي، والاضطرابات والتعقيد، حتى السذاجة. قد قطع مع ذلك الماضي ذي التحوّلات السائلة، والمتداركة، والمتنافية.

 على هذا الأساس كأنّنا نرى في أعماله الشتّى، ارتدادات خجولة، لذلك الإرث ونراه هنا، بين زمنَين مُخضرمَين: زمن أَفلَ وآخر أطلّ.