………………………………….
أخذ نفسًا عميقًا، ضغط زر الجرس، وانتظر. سمع وقع خطوات خلف الباب، ثم صمت، ثم فُتح الباب.
ظهرت أمامه امرأة خمسينية، وجهها ابيضا، يحمل ملامح مألوفة، لكن الزمن أضاف إليها مسحة من النضج والكبرياء. طويلة القامة نسبيًا، شعرها ألاسود ينسدل باسترخاء على كتفيها، تتخلله خصلات رمادية زادته وقارًا، و ترتدي فستانًا أبيض مخطّطًا بالأسود، يُبرز رشاقتها رغم السنوات. في وقفتها ثقة، في عينيها قوة، لكنها لم تخفِ ارتباك اللحظة. نظرت إليه بعينين بنيتين باستغراب، وكأنها تحاول أن تفهم وجوده هنا، وعيناها تسألان:
ــ نعم؟
كان سؤالها سريعا، ولكنها ادركت من يكون. ظهر الماضي فجأة كقنبلة موقوتة، لكن عقلها لم يرد أن يصدّق ما تراه عيناها. مرت لحظة من الصمت المشحون، لحظة امتدت كما لو أنها تحمل خمسة وعشرين عامًا من الأسئلة.
أما عاطف، كاد قلبه أن ينفجر في صدره من هول المفاجأة. هل يعقل أن يذهب برجليه اليها وهو لا يدري الى اين ذاهب! هل يعقل أن يلتقيان مجددا، بعد أن اختفت فجأة قبل اربع وعشرين عاما!. نظر إليها وكأنه يرى شبحًا خرج من ذاكرته، عيناه تجولان على ملامح وجهها، يبحث عن تلك الفتاة التي أحبها بجنون ذات يوم. كان الزمن قد نقش خطوطه على وجهها، لكنه لم يستطع أن يسلبها نظرتها الساحرة التي فتنته في الماضي. أما هو، فقد انحنى ظهره قليلًا، واشتعل الشيب في رأسه، لكن شيئًا في داخله لم يتغير، شيء ظل عالقًا هناك، في لحظة الفراق التي لم يفهمها أبدًا.
ابتلعت أمل ريقها بصعوبة، شعرت بجفاف في حلقها، وارتعشت يدها دون أن تدري، ثم رفعتها إلى صدرها، كأنها تحاول السيطرة على دقات قلبها التي باتت تصرخ داخلها. كان يجب أن تقول شيئًا، لكن الكلمات لم تطاوعها، وكل ما استطاعت أن تهمس به بصوت بالكاد خرج من شفتيها:
ــ عاطف؟!
ابتسم هو ابتسامة شاحبة، مزيج من الحنين والحزن، ومن شيء آخر لم تستطع تفسيره. أراد أن يقول الكثير، لكنه لم يكن يعرف من أين يبدأ. هل يسألها عن حالها؟ عن حياتها؟ عن السبب الذي دفعها للرحيل دون وداع؟ أم يقدّم لها الشيء الذي جاء من أجله؟
ــ نعم… عاطف. مر وقت طويل، مهيك؟
شعرت أمل أن الأرض تميد تحت قدميها، تشبّثت بمقبض الباب كأنها تخشى أن تسقط. صوته، رغم تغيّر الزمن، لا يزال يحمل نفس النبرة، نفس الأثر الذي اعتقدت أنها محته منذ سنوات. قلبها الذي عانت طويلًا لتسكّنه عاد ليخفق بعنف، كأنه يحاول كسر القفص الذي سجنته فيه.
ــ كيف… كيف وصلت لهون؟ كيف عرفت عنواني؟
أخرج يده ببطء، يحمل مغلفًا أصفر باهتا، واثار الزمن مرّ عليه كما مرّ عليهما. كان يرتجف قليلاً وهو يمدّه إليها، وصوته كان هادئًا، لكنه يحمل داخله اضطرابًا هائلًا:
ــ جئتُ لأعيد إليك هذا… رسالة تأخرت كثيرًا، لكن يبدو أنها لم تصل أبدًا إلى من أُرسلت إليه.
نظرت أمل إلى المغلف بارتباك، لكنها مدّت يدها بتردد وأمسكته. نظرت إلى العنوان، ثم شهقت بصمت، تحولت ملامحها في لحظة إلى الذهول المطلق. رفعت رأسها إلى عاطف، عيناها تطرحان ألف سؤال، لكن شفتيها لم تتحركا.
ــ شو هي الرسالة؟
قال بصوت منخفض، لكنه كان كالسهم في صدرها:
ــ رسالة منكِ… إلى زوجك قبل ثلاث وعشرين عاما، تعترفين فيها بشيء خطير.
تجمدت أنفاسها في حلقها. تجمد الزمن للحظة. شهقت، لكن صوتها لم يخرج. شعرت أن كل دمائها انسحبت من وجهها، تراجعت خطوة، وكأنها تلقت ضربة غير متوقعة. كانت هذه الرسالة قد اختفت منذ زمن. الان تفهم لماذا زوجها لم يكن له ردة فعل. كانت تعتقد أنه تفهم دوافعها.
ــ كيف… كيف وصلت إليك هذه الرسالة؟
تنهد عاطف، أشاح بوجهه للحظة، كأنه يحاول أن يجمّع أفكاره وسط هذا الإعصار. ثم قال، إنه لا يعرف. بينما كان يفرز أوراقه القديمة في مكان عمله، وجدها هناك. ثم اضاف انها تعلم أنه يعمل في مركز البريد، ولا يعرف كيف وصلت إليه. لكن يبدو أنها وجدت طريقها اليه بدلًا من زوجها.
وضعت أمل يدها على فمها، تحاول كتم أنفاسها، وتمنع نفسها من الانهيار. هذه اللحظة لم تكن في الحسبان، لم تتوقع أبدًا أن يعود شيء من الماضي ليقلب كيانها بهذه القوة.
تقدم عاطف خطوة، نظر إليها نظرة حملت كل الأسئلة التي لم يسألها أبدًا، ثم قال بصوت خافت، لكنه اخترقها كطعنة:
ــ من هو؟
رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه ولم تجب. ليس لعدم القدرة، بل رفضا لسؤاله الغبي. لأنه هو المقصود بالرسالة
ظل يحدّق بها للحظة، كأنه يحاول أن يستخرج الحقيقة من عينيها، لكن الصمت بينهما كان أقوى من أي كلام. شعر أن الهواء صار ثقيلًا، أن هذه اللحظة لم تعد تطاق، فاستدار فجأة، واتجه نحو المصعد دون أن يقول كلمة أخرى.
تابعته بعينيها وهو يبتعد، والمشاعر في داخلها كانت تعصف بها كإعصار مدمر. أرادت أن تناديه، أن تقول شيئًا، أن تشرح، أن تبرر… لكنها لم تستطع. بقيت مكانها، مشدوهة، تراقبه حتى دخل المصعد، وألقى نظرة أخيرة، ثم اختفى خلف الباب.
أغلقت أمل الباب، استندت عليه بظهرها، وأخذت نفسًا عميقًا، لكنه لم يكن كافيًا ليهدّئ العاصفة التي اجتاحت كيانها. أمسكت بالمغلف بقوة، وهي تحاول أن تسيطر على ارتعاشة أصابعها. قلبها كان يصرخ، عقلها كان يعج بالأسئلة، وروحها كانت ترتجف بين الماضي والحاضر.