ملخص
حراك أميركي لتدارك التصدعات التي أحدثتها مجاعة غزة ومستشارو ترمب في خضم البحث عن خيارات جديدة في غزة… فهل غير الوضع الإنساني الكارثي في غزة موقف ترمب؟
أدى الانهيار المفاجئ لمحادثات وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” إلى تراجع الأمل في إمكان إنهاء الأزمة الإنسانية في غزة، وعلى رغم بدء عمليات إنزال جوي لبعض المساعدات وتعهد إسرائيل بفتح ممرات إنسانية برية نتيجة ضغوط أميركية، فإن اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترمب “حماس” بعدم الرغبة في التوصل إلى اتفاق ومطالبته إسرائيل بالتخلص من الحركة، أسهما في تعقيد المشهد، في وقت يعاني الفلسطينيون في القطاع مجاعة يتسع نطاقها يوماً بعد يوم، فهل أدى تفاقم الوضع الإنساني في غزة إلى تغيير توجهات ترمب في شأن غزة؟ وما الذي يشير إليه تصريح وزير خارجية أميركا ماركو روبيو بأن الإدارة في حاجة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها في شأن غزة وتقديم خيارات جديدة للرئيس؟
أول الغيث
كانت المساعدات الإنسانية التي أسقطت جواً مساء السبت على الفلسطينيين في غزة بمثابة أول الغيث الذي ربما يبشر بانفراجه في الأزمة الإنسانية طويلة الأمد، التي نتجت من سوء إدارة الخطة الإسرائيلية – الأميركية لاستبدال مؤسسة غزة الإنسانية بعمليات منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، بعدما بدا للجميع أن مؤسسة غزة الإنسانية تسببت في مجاعة أدت إلى وفاة أكثر من 100 شخص خلال الأيام القليلة الماضية، وفقاً لمنظمات الأمم المتحدة.
لكن بينما يقول مسؤولو البيت الأبيض إن ترمب مستاء من صور المجاعة التي انتشرت حول العالم ونقلتها وسائل إعلام أميركية، ومنزعج من قتل الفلسطينيين ويريد إنهاء الحرب، إلا أنه لم يمارس أي ضغط يذكر على نتنياهو لإنهاء القتال خلال الأشهر القليلة الماضية. فبعد ستة أشهر من رئاسته، لا يزال ترمب بعيداً من إنهاء الحرب في غزة وسط تعثر المفاوضات الأخيرة، ويجد نفسه في مواجهة أزمة إنسانية وصلت إلى أسوأ مراحلها، في حين تزداد عزلة الولايات المتحدة وإسرائيل على الساحة الدولية.
نقطة تحول
ومع ذلك ربما يكون انهيار محادثات وقف إطلاق النار وسحب إسرائيل والولايات المتحدة المفاوضين احتجاجاً، بمثابة نقطة تحول في سياسة الإدارة الأميركية، فقد أشار ترمب إلى أن الوقت قد حان لإسرائيل للتخلص من “حماس” وإتمام المهمة، وهو ما لم يتبين حتى لحكومة نتنياهو ما إذا كان ذلك ضوءاً أخضر بمزيد من التصعيد العسكري، أم مجرد تكتيك تفاوضي للضغط على “حماس” من أجل تقديم تنازلات تؤدي إلى إبرام اتفاق وقف إطلاق النار.
لكن ما صرح به وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال لقائه عائلات الرهائن الإسرائيليين في وزارة الخارجية، أن الإدارة في حاجة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها في شأن غزة وتقديم خيارات جديدة للرئيس، يشير إلى أن الوقت قد حان لاستكشاف نهج أكثر شمولاً لإنهاء الحرب وتحرير جميع الرهائن المتبقين، بخاصة أن روبيو أشار إلى عدم رضا ترمب عن الشكل التدريجي لاتفاقات وقف إطلاق النار منذ عهد بايدن، مع هدنات قصيرة الأجل مقابل إطلاق سراح بعض الرهائن التي باءت في معظمها بالفشل.
اعتراف بالفشل
ولأن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة تقفان معاً في جزيرة منعزلة، بينما يرى كثير من حلفائهما أنهما يتحملان مسؤولية مشتركة عن الوضع المتردي في غزة، يعترف بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية بأن استراتيجيتهم الداعمة لإسرائيل بصورة غير مسبوقة لم تنجح، حيث شجع ترمب نتنياهو على اتخاذ مواقف أكثر صرامة حيال “حماس” وترك له فعل ما يشاء في غزة، ومنح الحكومة الإسرائيلية القنابل زنة 2000 رطل التي رفض الرئيس السابق جو بايدن إرسالها، إضافة إلى مزيد من الأسلحة، كما توقف عن أي انتقاد علني لقتل المدنيين الفلسطينيين، وأيد كذلك مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من إسرائيل، عبر شركة أميركية خاصة وليس عبر الأمم المتحدة، لضمان عدم تمكن “حماس” من الاستيلاء عليها، التي ثبت وفقاً لجنرالات إسرائيليين أن “حماس” لم تسرق المساعدات بصورة منهجية كما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز”.
ومع ذلك لم تختلف نتائج العمليات العسكرية الإسرائيلية على مدى الأشهر الستة الماضية كثيراً عن ذي قبل، فقد دمرت قوات الجيش الإسرائيلي بصورة منهجية مزيداً من قطاع غزة، مما أسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين، بينما ظلت “حماس” تقاتل وتقصف مناطق غلاف غزة في إسرائيل بالصواريخ، وتحتفظ بالرهائن وتفاوض في محادثات وقف إطلاق النار.
تدخل فاعل
يعتقد كثير من المحللين الذين يراقبون سلوك دونالد ترمب في مختلف الأزمات الدولية التي تدخل فيها، أو وعد بالتدخل، أنه يكون في أسعد حالاته عندما يتمكن من القيام بتدخل قصير وحاسم وفعال (مثل عملية قصف المنشآت النووية الثلاث في إيران) ويتمكن حينها من ادعاء بعض النجاح، لكنهم يعتقدون أيضاً أن الرئيس الأميركي يحب أن ينظر إليه على أنه يدير الأمور، ليبقى السؤال هو ما إذا كانت ضغوط الدول الأخرى لزيادة الضغط على إسرائيل ستدفعه إلى التحرك، خشية أن ينظر إليه على أنه لا يدير الأحداث.
وما قد يشجع ترمب على التحرك مجدداً أن الفجوة تقلصت بين الجانبين في المحادثات مع تقديم “حماس” تنازلات بحسب الوسطاء في مصر وقطر، بينما تشمل الخلافات المتبقية قضايا مثل تمركز الجيش الإسرائيلي داخل غزة خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار التي تبلغ مدتها 60 يوماً.
ولا يبدو أن هذه الخلافات ستكون عصية على الحل، لأن ضعف “حماس” يعني إمكان استغلال فترة الـ60 يوماً لإنشاء هيئة حاكمة جديدة، مدعومة من السلطة الفلسطينية، وقد تتولى هذه الهيئة زمام الأمور في غزة في المرحلة الثانية بدعم غربي وعربي، وحيث إن العامين الماضيين أظهرا عدم كفاءة “حماس” ولا مبالاتها المطلقة بحياة الفلسطينيين، فإن كثيراً من سكان غزة من المتوقع أن يؤيدوا هذا الاتفاق.
ضغط على الطرفين
غير أن نجاح ترمب في مهمته القادمة يجب من وجهة نظر الإدارة الأميركية أن ترتكز على ضغوط متوازية على الطرفين، إذ يمكن لقطر التي تستضيف قادة حركة “حماس” أن تضغط على الحركة من أجل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، باستخدام التهديد بالطرد وفرض مزيد من القيود على التمويل، في وقت يجبر فيه دونالد ترمب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على إنهاء الحرب، مستخدماً كل النفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة كحليف لإسرائيل.
وعلى مدى التاريخ أنهى ضغط البيت الأبيض معظم حروب إسرائيل منذ عام 1948، وأثبت منحها هذا القدر الكبير من الحرية في الصراع الجاري أن أميركا لا تزال أساسية، وليس أدل على ذلك من تدخل ترمب الغاضب في يونيو (حزيران) الماضي الذي أدى إلى إنهاء الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، ومن ثم يمكن للرئيس الأميركي الآن أن يظهر غضبه وقوته لمصلحة غزة.
وعلى رغم مزاعم الولايات المتحدة وإسرائيل أن المحادثات انهارت لأن “حماس” لا تريد صفقة، يقول كثير من المحللين إن المأزق يرجع إلى خلافات جوهرية حول شروطها، إذ يشير خبير شؤون الشرق الأوسط الذي قدم المشورة لكل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية، آرون ديفيد ميلر، إلى أن “حماس” تريد صفقة، ومطالبها هي طريق مضمون لإنهاء الحرب بصورة دائمة وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع واستئناف إيصال المساعدات على نطاق واسع بتنسيق الأمم المتحدة وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين مقابل الرهائن الإسرائيليين.
ومن الواضح أن التناقض الأساس يكمن في تصميم “حماس” على البقاء ومفهوم نتنياهو للنصر الكامل، ومع ذلك يبدو أن قرار نتنياهو وترمب بسحب فرق التفاوض من المحادثات، الذي وصفه دبلوماسي بأنه تكتيك تفاوضي وليس قراراً نهائياً، من شأنه أن يعزز فكرة أن الأميركيين لن يدعوا الواقع المروع المتمثل في المجاعة وسوء التغذية في غزة يؤثر في عزمهم التفاوضي مع “حماس”.
أسباب للتفاؤل والحذر
ويبدو أن تفاؤل الولايات المتحدة مدفوع بتوقعات أن نتنياهو سيكون أكثر مرونة بعد الـ27 من يوليو (تموز)، حيث يبدأ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) عطلته حتى أكتوبر (تشرين الأول)، مما يمنع المشرعين اليمينيين والقوميين المتطرفين من التشكيك في أي اتفاق لوقف إطلاق النار أو انهيار الحكومة، ومع ذلك قد لا تكون مرونة نتنياهو كافية لكبح جماح إحباط البيت الأبيض المتزايد من رئيس الوزراء الإسرائيلي.
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الأخير على وزارة الدفاع السورية دعماً للأقلية الدرزية في مدينة السويداء، ثم قصف الجيش الإسرائيلي للكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة، حذر مسؤولون أميركيون من أن نتنياهو يبدو خارجاً عن السيطرة، وحذر بعضهم من أن إصرار رئيس الوزراء على استخدام القوة قد يعرض علاقته بترمب للخطر، لأن الرئيس لا يحب أن يشاهد التلفزيون ويرى القنابل تلقى في بلد يسعى إلى السلام فيه، بعدما أصدر إعلاناً مهماً للمساعدة في إعادة إعماره.
استياء في قاعدة ترمب
في الأسبوع الماضي، وصف السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، وهو مسيحي صهيوني، مقتل مواطن أميركي من أصل فلسطيني على يد مستوطنين في الضفة الغربية بأنه عمل إجرامي وإرهابي، كما دان هجوم المستوطنين الأسبوع الماضي على كنيسة تعود للقرن الخامس الميلادي في بلدة الطيبة المسيحية بالضفة الغربية، ووصفه بأنه عمل إرهابي، مطالباً بعواقب قاسية. كما صوتت عضو الكونغرس الجمهورية مارجوري تايلور غرين، إلى جانب الديمقراطيتين التقدميتين رشيدة طليب (من أصل فلسطيني) وإلهان عمر (من أصل صومالي)، لمصلحة تعديل يقضي بحرمان إسرائيل من 500 مليون دولار من التمويل العسكري، لكن مجلس النواب رفض التعديل بغالبية 422 صوتاً مقابل ستة أصوات.
وفي دليل آخر إلى توتر العلاقات القديمة بين إسرائيل والمجتمع الإنجيلي، الذي يعد ركيزة أساسية من ركائز الدعم الأميركي لإسرائيل، انتقد هكابي إسرائيل أيضاً لتقييدها منح التأشيرات للجماعات الإنجيلية، بعدما بدأت إسرائيل تطالب هذه الجماعات بالتقدم للحصول على تأشيرات بتدوين تفاصيل عن معتقداتها الدينية وأنشطتها وممتلكاتها في إسرائيل.
لم يكن التوبيخ العلني النادر من هكابي، الشخصية البارزة في دائرة ترمب، الذي ألقاه في موقع الحادثة في بلدة الطيبة المسيحية الفلسطينية، مباشراً على نحو غير معتاد فحسب، بل حمل أيضاً ثقل شخص ينظر إليه منذ زمن طويل على أنه حليف لاهوتي وسياسي لإسرائيل، كما يعد المسيحيون الإنجيليون الأميركيون من بين أكثر الداعمين الدوليين ولاء لإسرائيل وأكثرهم صراحة، لا سيما داخل حركة “ماغا” التي يقودها الرئيس دونالد ترمب.
توتر مع “ماغا”
وفي مؤشر آخر إلى توتر العلاقات مع شرائح من قاعدة دعم “ماغا” من حملة “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً” التي يروج لها ترمب، بثت شبكة “ون أميركا نيوز” اليمينية المتطرفة الأسبوع الماضي، تقريراً عن مقتل المواطن الأميركي – الفلسطيني في الضفة ضمن فقرة تناولت قيود التأشيرات والهجمات على المسيحيين في إسرائيل.
في الوقت نفسه بدأ عدد من القيادات والرموز البارزة في كتلة “ماغا” في انتقاد السياسة الأميركية حيال إسرائيل، إذ صرح عضو الكونغرس السابق عن ولاية فلوريدا، مات غيتز، بأن الحقيقة أن هذه ليست مأساة معزولة، إنها جزء من نمط هجمات المستوطنين الإسرائيليين على المجتمعات الفلسطينية، التي تشمل إحراق المنازل والمزارع والأرواح، وكل ذلك تحت حماية القوات الإسرائيلية الممولة من أموال دافعي الضرائب الأميركيين.
جاءت تصريحات هاكابي وغيتز على خلفية تزايد الانتقادات لإسرائيل من شخصيات مؤثرة في حملة “ماغا” بمن فيهم مذيع قناة “فوكس” السابق تاكر كارلسون والممثل الكوميدي ديف سميث وعضو الكونغرس الأميركي مارجوري تايلور غرين.
دوافع ومخاوف دينية
وينبع إيمان كثير من البروتستانت الإنجيليين بدعم إسرائيل من تقليد لاهوتي يعود إلى القرن الـ19، الذي ينظر إلى إسرائيل كخطوة أساسية في كشف النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية العالم. وفي هذا الإطار لا يعد الدعم السياسي لإسرائيل مجرد سياسة، بل واجب مقدس.
لكن ليس كل قاعدة ترمب المسيحية تتفق مع هذه الافتراضات، إذ يرفض المحافظون الكاثوليك، وهم كتلة تصويتية حاسمة لترمب، اللاهوت الذي يستند إلى التدبير الإلهي لنهاية العالم، ويحافظون على نظرية أخرى مختلفة تماماً عن الآخرة. ففي حين دافعت بعض تيارات التعاليم الأخلاقية الكاثوليكية عن حق إسرائيل في الوجود، إلا أنها تصر أيضاً على كرامة الحياة الفلسطينية سواء كانت مسيحية أم غير مسيحية.
مع تزايد قلق الجماعات الكاثوليكية والبروتستانتية الرئيسة إزاء معاملة المسيحيين الفلسطينيين، يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه التطورات تشير إلى تحول أوسع أم إلى موقف موقت بينما يحاول ترمب موازنة الأمور.
وإذا اضطرت قاعدة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” للاختيار بين الولاء لإسرائيل والتضامن مع المسيحيين المضطهدين، فقد يضطر ترمب إلى توضيح موقفه، وإلا سيخاطر بالظهور بمظهر اللامبالاة إزاء تفاقم الصدع.