قبل مام عام ونيف، في 1922، نشرت قصة فراز كافكا المعروفة “فنان الجوع” التي كتبها قبل وفاته بعام، وهي تحكي قصة رجل يعرف بـ”فنان الجوع”، يمتهن الامتناع عن الأكل كفن استعراضي. يعرض في قفص أمام الجمهور، ويظل صائما لأيام، وقد يصل صيامه إلى أربعين يوما. في البداية، كان يحظى بشعبية كبيرة، والجمهور يتوافد لمشاهدته. لكن مع مرور الزمن، بدأ الناس يفقدون الاهتمام به، والفن ذاته أصبح موضع شك.
الفنان لا يكتفي بالأربعين يوما، بل يريد أن يصوم أكثر، ولكنه مقيد بإرادة المنظمين الذين يوقفون العرض في اليوم الأربعين، ظنا منهم أن الجمهور لن يحتمل أكثر. ومع الوقت، يضمحل هذا النوع من العروض، وينقل الفنان إلى سيرك مهمل، حيث ينسى تماما، ويترك في قفصه دون أن يلتفت إليه أحد. وفي النهاية، يكتشف أنه لم يكن يصوم من أجل الشهرة أو المال، بل لأنه ببساطة لم يكن يملك أن يجد طعاما.
في حكاية كافكا، يجلس “فنان الجوع” في قفصه، محاطا بنظرات الفضول، يراقَب بدقة، يقيد بعدد أيام الصوم، يؤطر في سياق ترفيهي. الناس يمرون، يندهشون، يتعاطفون قليلا، ثم يمضون. وعندما لا يعود العرض جذابا، يهمل، ينسى، ويموت في صمت. لكن في غزة، لا أحد يحدد “أيام الصيام”. لا يوجد هنا من يقرع الجرس في اليوم الأربعين لينهي المعاناة. لا أحد يأتي ليقول: “يكفي”.
الجوع في غزة ليس فنا، ولا استعراضا، ولا موضوعا قابلا للتداول على “ستوري” أو “بوست” أنيق. هو انكماش المعدة الحقيقية، وانطفاء العيون، وتحول الأطفال إلى رماد.
غزة ليست فنان الجوع. غزة هي جوع بلا شهود، فن الصبر والاعجاز لكن دون جمهور، غزة ليست أسطورة، هي ألم لا يطلب التصفيق، وصمت يقتل في وضح النهار، ثم يعاد تدويره في منشورات عاجلة، ثم ينسى.
الألم الخفي
يعد الجوع من أعتى أشكال الألم، لأنه عذاب متواصل لا يهدأ. على عكس جراح الحرب الظاهرة، يظل ألم الجوع مستترا عن الأنظار، ينهش الجسد من الداخل ويستنزف قوى الإنسان تدريجيا.
الجوع في غزة ليس فنا، ولا استعراضا، ولا موضوعا قابلا للتداول على “ستوري” أو “بوست” أنيق. هو انكماش المعدة الحقيقية، وانطفاء العيون، وتحول الأطفال إلى رماد
تظهر حقيقة الجوع كسلسلة من الوفيات اليومية الصغيرة التي يختبرها الإنسان مرارا، إذ يتجرع الألم في كل لحظة جوع. إن كون هذا الألم غير مرئي– بما أنه بلا دماء أو جروح – جعل منه معاناة يمكن أن تتفاقم بعيدا من عدسات الكاميرات. وهنا تكمن قسوته: فهو عنف صامت يفتك بالبشر ببطء. وقد أدركت الأنظمة القمعية عبر التاريخ خطورة هذا النوع من الألم غير المرئي، فاستغلته كسلاح فعال لا يثير الضجة. وقد مارسته قوى استعمارية وأنظمة استبدادية لإخضاع الشعوب عبر إخضاع بطونها. من الحصار في الحروب القديمة حيث كان تجويع المدن المحاصَرة أسلوبا لإجبارها على الاستسلام، إلى سياسات حديثة أكثر منهجية، تشير دراسات تاريخية إلى أن المجاعات الكبرى لم تكن كوارث طبيعية بقدر ما كانت من صنع الإنسان.
يقول أحد الباحثين في سياق اعتماد النازية سياسة التجويع، إن ألمانيا النازية رأت في التجويع وسيلة إبادة فعالة لأنها تجذب قدرا أقل من الانتباه مقارنة بالقتل المباشر. في هذا المعنى، يتحول الجوع إلى أداة سلطة تمارس التعذيب بعيدا من الأضواء، حيث يبقى الضحية يتألم في الظل بينما قد لا يدرك العالم فورا فداحة ما يجري.
على المستوى الفلسفي والإنساني، يمثل الجوع نموذجا للمعاناة الممتدة التي تتحدى قدرة اللغة على التعبير. فقد أشار بعض الفلاسفة (مثل إلين سكاري في كتابها “جسد في الألم”) إلى أن الألم الشديد، كالجوع المزمن، يمكن أن يفقد الإنسان القدرة على الكلام أو التفكير في أي شيء سوى ألم جسده. إنه معاناة تحرم الإنسان من عناصر كرامته الأساسية: فإذا كانت الكرامة ترتبط بالقدرة على اختيار أفعالنا والتفكير بحرية، فإن الجوع يقيد الإنسان بسلاسل حاجته البيولوجية، يصبح أسيرا لنداء المعدة الخاوية، عاجزا عن التركيز على أي شأن آخر.
هكذا، فإن الجوع ليس مجرد إحساس عابر بالجوع المعتاد الذي نعرفه جميعا، بل هو حالة قسرية مستدامة تفترس الجسد والنفس معا، وتحول الحياة إلى صراع بقاء يومي. إنها ألم غير مرئي لأن العالم الخارجي قد لا يلحظه سريعا، لكنها حقيقة مرئية جدا لمن يعيشونه في كل دقيقة، في ارتعاش الأيدي من شدة الوهن، وفي نظرات العيون الزائغة بحثا عن لقمة خبز.
أدركت الأنظمة القمعية عبر التاريخ خطورة هذا النوع من الألم غير المرئي، فاستغلته كسلاح فعال لا يثير الضجة
اجتهد العلماء عبر التاريخ في محاولة للوصول إلى آليات أكثر موثوقية في تشخيص الألم، وكانت جميع هذه المحاولات تستمد تشخيصها من مفردات التعبير وأشكال الوصف الذي يصف به المرضى آلامهم. الأنين هو شكل من أشكال التعبير لكنه مبهم وقاصر على اعطاء تشخيص، بينما تعتبر اللغة الشكل الأكثر تطورا. التشخيص اليوم يتجاوز السؤال حول شدة الألم للبحث أكثر في طبيعته، هل هو ألم نابض، ألم حارق، إلخ.
واليوم، ونحن في حقبة تتسع أبوابها لتطل على العالم بشكل أشمل وتصل من شاشة الهاتف إلى كل مكان، ربما غدت فكرة التعبير عن الألم أصرح وأوضح، ومع هذا يبدو ما يحدث في غزة وما يذاع وينشر من مشاهد للأجساد العظمية والوجوه وملامحها الغائرة والشفاه الجافة غير كاف لوقف هول ما يجري.
البعد الزمني للألم هو شيء متجذر في التجويع وتشخيصه، فالتجويع الذي حدث في غزة هو فعل زمني متراكم وألم مرحلي ينتقل من يوم الى يوم عبر تآكل مستمر للجسد وضمور في طاقته وقدرة أعضائه الداخلية على أداء وظائفها. لا يبيد الألم موضوعات الفكر والعاطفة المعقَدة فحسب، بل يدمر أيضا موضوعات أفعال الإدراك الأكثر جوهرية، وينتهي أيضا بتدمير قدرة المرء على البصيرة والرؤية العقلانية.
ألم الجوع كسلاح تفكيك
والهدف من الألم واضح، خاصة عندما يكون هذا التعذيب مقصودا. فكلما أوجعت أكثر انهارت قوَاك وزاد تفكك قوتك، وبالتالي تلاشيت وتلاشى تأثيرك وقدرتك على الصمود والنجاة والبقاء. النجاة ليست فقط تجاوز الموت وإنما الحفاظ على ذاتك وتماسكها وتأصلها ومنع تلاشيها في خضم هذا العبور.
يشكو بعض أهل قطاع غزة، في خضم هذا التجويع الذين يعيشونه، عدم قدرتهم على الصمود وفي الوقت نفسه عدم قدرتهم على التوحش والخروج عن عباءة المبادئ والأخلاق التي نشأوا عليها. لا يمكن الخروج بسلاح أبيض والهجوم على شاحنات المساعدات لسرقة كيس طحين مستحق. لكن هذا في الحقيقة الهدف الذي يسعى الاحتلال لتحقيقه من هذا التجويع الممنهج أن تتخلى عن عباءتك هذه وتتوحش وتتحيْون لتتلاشى سنوات من التطور الإنساني والرقي، لأنه إن تخليت عنها وتجاوزت هذا الحد مرة صار تكرار الأمر سهلا وربما يصبح امتهانا.
لا يبيد الألم موضوعات الفكر والعاطفة المعقَدة فحسب، بل يدمر أيضا موضوعات أفعال الإدراك الأكثر جوهرية
التفكيك هو الغاية من هذا التجويع الممنهج، تفكيك الصوت واللغة والقدرة على التعبير، تفكيك قوة التماسك لدى الشخص والتي تجمع أوصاله وجأشه وطاقته ووعيه نحو فكرة البقاء والصمود والنجاة. وفي غرف التعذيب -كمثل مباشر- يستخدم الألم الممنهج لتحطيم الشخص وتفكيك صموده وهمته بما يدفعه للاعتراف والتسليم، فيفترس حديثه اليَقظ والمنضبط وتغتال لغته حتى يسقط فريسة الاعتراف القسري، والتجويع كشكل من اشكال التعذيب يمتلك فعالية أخطر.
سياسة تجويع ممنهجة
في واقع الأمر، ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي هو التعذيب في صورته الشمولية الممتدة وفي أوسع تجلياته والتي تطول ثلاثة محاور: أولا، إنزال الألم بالشخص بطرق متزايدة الشدة. ثانيا، مع التراكم يبدأ هذا الألم بالتضخم داخل جسد الشخص، والتضخم هنا بمعنى أنه يجسَد، ويصبح مرئيا لمن هم خارج جسد الشخص. ثالثا، انكار الألم المجسَد على أنه ألم وتفسيره على أنه قوة وشكل من أشكال أسطرة الصمود.
لفهم مأساة الجوع في غزة في سياق المحاور الثلاثة وشمولية التعذيب الممنهج الذي يمارس، لا بد من إدراك السياق السياسي للحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ حوالى 18 عاما. بعد فوز حركة “حماس” في انتخابات 2006 وتوليها السلطة في غزة، شددت إسرائيل قيودها على المعابر بشكل خانق. وفي عام 2007 فرضت حصارا محكما اشتد على مر السنوات ليشمل السيطرة على كل ما يدخل ويخرج من غزة تقريبا، من الوقود ومواد البناء إلى الغذاء والدواء. بل إن أحد كبار مستشاري الحكومة الإسرائيلية آنذاك، دوف فايسغلاس، لخص السياسة تجاه غزة بعبارة وقحة: “الفكرة هي أن نضع الفلسطينيين على حمية غذائية ولكن دون أن نجعلهم يموتون من الجوع”. هذه الكلمات تكشف النية المبيتة خلف الحصار: إبقاء السكان على حافة الجوع الدائم، تحكم دقيق في السعرات الحرارية التي يسمح بوصولها، بحيث يبقون بالكاد على قيد الحياة، دون أن يصلوا الى حد الموت الجماعي الذي يحرج إسرائيل أمام العالم.
إن نتائج هذه السياسة الكارثية على الصعيد الإنساني تمتد إلى ما قبل حرب الإبادة التي اندلعت عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث كانت مؤشرات سوء التغذية في غزة تنذر بالخطر بسبب سنوات الحصار: تقرير طبي في 2012 مثلا أظهر أن 10% من أطفال غزة تحت سن الخامسة أصيبوا بالتقزم (ضعف النمو) جراء سوء التغذية المزمن، وأكثر من 58% من أطفال المدارس كانوا يعانون من فقر الدم. هذه الأرقام كشفت كيف يعمل هذا التجويع بصمت وكيف ترك الحصار آثارا جسدية دائمة على جيل كامل. ومع تصاعد وتيرة الأحداث وتفاقم آثار الابادة في 2023-2024، بلغ الوضع حدود المجاعة الشاملة. تشير بيانات الأمم المتحدة في منتصف 2025 إلى أن 96% من سكان غزة صاروا في حال انعدام أمن غذائي شديد، أي بالكاد يجدون ما يسد رمقهم يوميا. وارتفعت حالات سوء التغذية الحاد بين الأطفال أضعافا مضاعفة، وبدأت صور الأطفال الهزيلين ببطون خاوية وعيون غائرة تنتشر لتشهد على مستوى المأساة.
لا يمكن فهم ما يحدث في غزة اليوم خارج هذا السياق المنهجي للتفكيك: تفكيك الجسد، واللغة، والكرامة، والنجاة
ما يزيد المشهد سوءا هو استخدام إسرائيل للمساعدات الإنسانية كسلاح ضغط. فمنذ مارس/ آذار 2025، فرضت إسرائيل نموذج توزيع مؤسلح للمعونات عبر ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” التابعة لها، حيث حددت مواقع ونظاما لتوزيع الغذاء في مناطق تخضع لرقابتها المشددة. وفي أثناء ذلك، منعت الجهات الدولية كالأمم المتحدة من توزيع مواد أساسية كطرود الطعام والوقود بنفسها. النتيجة كانت مشاهد فوضى دامية: حشود يائسة تندفع نحو شاحنات الإغاثة القليلة، إطلاق نار وقع مرات عدة عند نقاط التوزيع تسبب في مقتل العشرات ممن كانوا يحاولون فقط الحصول على كيس طحين أو علبة حليب. هكذا أصبح الحصول على الغذاء مقامرة بالحياة بالنسبة للغزيين: إما الجوع القاتل في البيوت أو المخاطرة بالرصاص عند نقاط التوزيع.
تحت هذا الحصار المتوحش، لم يعد الجوع في غزة مجرد نقص في الطعام، بل تحول إلى تقنية سلطوية، وأداة إبادة بطيئة تمارَس في العلن وتقابل بصمت دولي مدو. الجوع هنا ليس أزمة عابرة، بل معمار من المعاناة اليومية التي تبنى لبنة لبنة فوق أجساد الهزال وداخل أمعاء الأطفال. في ظل حصار يخطط للسعرات الحرارية ويضبط أنفاس الحياة، يصبح الألم نظاما، والتجويع سياسة، والخبز حلما مؤجلا.
لا يمكن فهم ما يحدث في غزة اليوم خارج هذا السياق المنهجي للتفكيك: تفكيك الجسد، واللغة، والكرامة، والنجاة. ومهما توارى هذا الألم خلف الأبواب المغلقة والأنظمة الإخبارية المتواطئة، سيبقى له أثر في الأصوات التي لم تستطع الصراخ، وفي العيون التي احترقت دون أن تدمع، وفي الأرواح التي تآكلت وهي تتشبث ببعض من ضوء البقاء. أمام هذا الجوع الصامت، لا يكفي التعاطف، بل علينا أن نسمي ما يحدث باسمه الحقيقي: تعذيب جماعي معلن، يمارس كسياسة، ويفرض كقدر.